نشرتْ صحيفة «لوموند» الفرنسية العريقة في 29 يونيو 2023 خبراً تحت عنوان: «التلوث الخالد موجود في كل مكان، حتى في شَعرْ عضو البرلمان»، حيث أفاد الخبر استناداً إلى تقارير ودراسات علمية بأنه قد تم اكتشاف مجموعة من ملوثات عضوية متعددة الفلورين في شَعر 14 من أعضاء مجلس النواب الفرنسي الذين يمثلون مناطق مختلفة من فرنسا، مما يعني أن هذه الملوثات التي يُطلق عليها «الملوثات الخالدة»، أو الملوثات الأبدية بسبب ثباتها واستقرارها وعدم تحللها في البيئة، قد تغلغلت بعمقٍ شديد في المجتمع الفرنسي برمته، وتجذرت بدرجة مشهودة ومزمنة في مكونات البيئة الفرنسية الحية وغير الحية، وانتقلت مع الوقت وتراكمت في أعضاء جسم الإنسان.
وعلاوة على هذا، أَصدرت الصحيفة نفسها تقريراً مطولاً في 23 فبراير 2023 تحت عنوان: «التلوث الخالد: اكْتَشفْ خارطة التلوث بمركبات الفلورين العضوية في أوروبا»، حيث نُشر تحت عنوان «مشروع التلوث الخالد» بالتعاون مع 17 وكالة متخصصة، وجامعة، ومؤسسة بحثية من القارة الأوروبية، وهذه الخارطة تُعد الأولى من نوعها وتبين اتساع رقعة تلوث المدن والدول الأوروبية بهذه المجموعة الخالدة من الملوثات المعروفة اختصاراً بـ«بي إف أي إس» (PFASs). وقد خلصت الدراسات إلى أن هذه المجموعة من الملوثات غطت القارة برمتها، فهي موجودة في 17 ألف موقع، في المياه السطحية، والجوفية، والتربة، والكائنات الحية، وتراوح التركيز بين 10 إلى أكثر من 10 آلاف نانوجرام من الملوثات في الكيلوجرام، أو جزء في البليون.
وهذه الظاهرة المتمثلة في تفشي وانتشار هذه الملوثات الأبدية في مكونات بيئتنا وفي أعضاء أجسادنا ليست ظاهرة «فردية أوروبية» مقتصرة على القارة الأوروبية وحدها، وإنما هي جاثمة في كل أنحاء العالم، سواء في الدول المتقدمة الغنية، أو في الدول النامية الفقيرة، وسواء في المواقع القريبة من الأنشطة البشرية، أو في المناطق النائية والبعيدة عنَّا كلياً. فهذه المجموعة من الملوثات تدخل في تركيب معظم المواد الاستهلاكية والمنتجات اليومية التي تستعملها الشعوب في كل دول العالم بدون استثناء، ولذلك كما هي انْطلقتْ وتسربت إلى عناصر البيئة ومنها إلى الإنسان الأوروبي، فإنها حتماً انتقلت إلى أجسامنا جميعاً أينما كُنا.
فعلى سبيل المثال، نَشرت وسائل الإعلام الأمريكية خبراً في 22 يونيو 2023 يفيد بأن شركة (3M) قد وافقت على تسوية تاريخية في المحاكم لدفع مبلغ 10.3 بلايين دولار بسبب آلاف الدعاوى التي رُفعت ضدها من قبل الحكومة الأمريكية في عدة ولايات لعدم منعها تسرب «الملوثات الخالدة» إلى شبكات مياه الشرب فتعرض الملايين لمخاطر الإصابة ببعض الأمراض المتعلقة بهذه الملوثات مثل سرطان الكبد وغيره من أنواع السرطان، وتلف وتدهور نظام المناعة، واضطرابات وخلل في أنظمة الهرمونات التي تفرزها الغدد الصماء، كالغدة الدرقية، والنخامية، والبنكرياس.
وفي الجهة الثانية من كرتنا الأرضية، في الصين تحديداً، فهناك دراسة منشورة في 12 يونيو 2023 حول «الأنماط المكانية والزمانية لتركيز المركبات العضوية متعددة الفلورين في الفترة من 2011 إلى 2021 في التربة الزراعية شرق الصين» في مجلة «علم وتقنية البيئة» (Environmental Science and Technology)، حيث أفادت بأن أكثر من 40% من عينات التربة كانت تحتوي على «الملوثات الخالدة» وبتراكيز تتراوح بين 17.6 إلى 1950 بيكوجراماً لكل جرام، مما يؤكد انتقالها من التربة إلى النباتات، وأخيراً إلى الحيوانات والإنسان. وجدير بالذكر أن هذه الملوثات ليست موجودة في البيئات الخارجية فحسب، وإنما هي موجودة أيضاً في عقر دارنا في منازلنا، بحسب الدراسة الصينية المنشورة في 26 مارس 2021 في مجلة «علوم وتقنية البيئة» تحت عنوان: «المركبات العضوية متعددة الفلورين في غبار البيئات الخارجية والداخلية في الصين»، حيث تراوح التركيز في الغبار الخارجي من 105 إلى 321 نانوجراماً من هذه الملوثات لكل جرام من الغبار، وفي الغبار في البيئة الداخلية تراوح من 185 إلى 913.
فهذه الملوثات الخالدة تقع ضمن عددٍ كبير من الملوثات المُسببة لاضطرابات الغدد الصماء، والتي تُختصر بـ(إي دي سي) (endocrine disrupting chemicals, EDCs)، وهذه الملوثات جميعها تؤثر على وظيفة هرمونات الجسم الطبيعية الفطرية التي خلقها الله سبحانه وتعالى باتزان وبقدر لتؤدي دورها في حماية جسم الإنسان واستدامة حياته، كما إنها تتضارب مع مهمتها ودورها الحيوي، فهي إذن تُحدث خللاً وشرخاً كبيرين في عمل الأنظمة الهرمونية للجسم، وتسبب إعاقة أو شللا وعدم اتزان في عملها، فتُنزل بالإنسان أمراضاً كثيرة، مثل السرطان، وانخفاض نسبة الخصوبة عن طريق التأثير على نوعية وعدد الحيوانات المنوية، ومرض السكري، والبلوغ المبكر عند البنات، إضافة إلى أضرار أخرى سيكتشفها العلماء في السنوات القليلة الماضية.
وعلاوة على الملوثات الأبدية الخالدة التي أصبحت الآن جزءاً لا يتجزأ من مكونات بيئتنا أينما كانت، في المناطق الحضرية أم في القرى النائية، أو في أعالي الجبال الشاهقة وفي الصحاري الباردة في القطبين الشمالي والجنوبي، ومنها دخلت في أعضاء أجسامنا، فهناك مجموعة أخرى من هذه الملوثات التي تُحدث اضطراباً وخللاً هرمونياً وهي أيضاً موجودة وتضاف إلى عدد لا يعد ولا يحصى من المنتجات الاستهلاكية التي لا نستطيع اليوم العيش بدونها، مثل مجموعة مركبات عضوية عطرية كالبيس فينول (bisphenols) التي تضاف إلى البلاستيك لتعطيه خاصية الصلابة والقوة، وتُستخدم في العبوات البلاستيكية التي يستخدمها الكبار والصغار، إضافة إلى مركبات الباثليت (phthalates) التي أيضاً تضاف إلى المنتجات البلاستيكية لتعطيها خاصية النعومة والمرونة وتستخدم للتغليف والأنابيب. وقد أثبتت آلاف الدراسات، التي لا يسع المجال لذكرها هنا، وجود هذه الملوثات التي تتعارض وتهدد وظيفة النظام الهرموني والحيوي في حليب الأم، وأنسجة المشيمة في جسم المرأة الحامل، والبول، والدم، والحيوانات المنوية، فلم يبق عضو من جسم الإنسان إلا ودخلت فيه.
فهذه المجموعة الكبيرة من الملوثات التي تتداخل وتتضارب مع عمل هرمونات الجسم، وبخاصة تلك التي لها علاقة بالخصوبة والعقم، وتكاثر الإنسان، ونمو الجنين في بطن أمه، وولادة الأجنة في وقتها الطبيعي، قد تعمل بشكلٍ مجموعي وتراكمي فتؤدي مع الوقت إلى تعقيدات مزمنة تهدد استدامة حياة الإنسان على وجه الأرض، أي قد يقضي الإنسان على نفسه بيديه وبإرادته الحرة عن طريق إدخال عشرات الآلاف من هذه الملوثات السامة والخطرة والمسرطنة إلى بيئته وجسمه، فهي في مجموعها تُمثل قنبلة دمار شامل للجسم البشري.
bncftpw@batelco.com.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك