زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
أيام كان التلفزيون يحبو
سببت لي بعض مذيعات الفضائيات العربية والمطربات والراقصات اضطرابات عقلية ونفسية حتى صارت تصدر عني عبارات بذيئة مخزونة في سنام ذاكرتي كلما رأيتهن، وكنت قد طهرت لساني من مثل تلك العبارات سنوات طوالا.
وأعود بالذاكرة إلى عصر كان فيه التلفزيون طاهرا ونظيفا ومبهرا، وبالمناسبة فقد سبقت نحو 95% قراء هذه الصحيفة في مشاهدة التلفزيون، لسبب بسيط هو أن السودان والعراق أول بلدين عربيين عرفا البث التلفزيوني، وفي تلك البدايات لم يكن التلفزيون كما هو الحال اليوم يشتت أذهان الطلاب، كما هو حادث اليوم حيث تتحرش المذيعات والمطربات بعيالنا بالهمس واللمس والآهات والنظرات، والحركات القرعة.
اكتشف السودان التلفزيون ونحن في المدرسة الثانوية، ووضعت إدارة المدرسة جهازاً في «نادي الطلبة» وخصصت وقتاً محدداً لمشاهدة برامجه فكنا نجلس أمام الجهاز في أدب وصمت قبل نحو ثلاث ساعات من قيام العامل المختص بتشغيله، ومن لا يبكر باحتلال موقع متقدم قبالة الجهاز، كان يكتفي بالوقوف على بعد نحو ربع كيلومتر من الجهاز كي يتسنى له التفاخر بأنه «شاف» التلفزيون، في حين كان بعض المهووسين يتفاخرون بأنهم لمسوا الجهاز بأيديهم «التي سيأكلها الدود».
كانت جميع البرامج تبث مباشرة لعدم وجود نظام التسجيل بالفيديو، وأذكر أنه بعد دخول السودان عصر التلفزيون بسنوات طويلة كان هناك مذيع صاحب حضور قوي يقدم سهرة حية عندما واتت الفرصة أحد أعضاء الفرقة الموسيقية التي كانت تشارك في برنامج كان يقدمه فشن هجوماً كاسحاً على ناقد فني كان قد شتمه في مقال صحفي، وبعد قليل تسلم المذيع قصاصة من الورق عليها ملاحظة من وزير الإعلام الراحل عمر الحاج موسى يقول فيها إنه لا يجوز توجيه الشتائم عبر منبر عام لشخص غير موجود في الاستوديو، وأن على المذيع أن يطلب من الملحن أن يسحب كلامه وأن يعتذر للناقد الصحفي.. واستخدم المذيع كل ما أسعفه من دبلوماسية لإقناع الموسيقي بالاعتذار لكن صاحبنا ركب رأسه بل أضاف قائلاً: إن الناقد يستاهل ما هو أكثر من ذلك. ووقع المذيع في حيرة بين توجيهات الوزير وعناد الملحن فتوجه إليه متوسلا: أرجوك اعتذر عشان ما تخرب بيتنا.. فكان أن وصلته قصاصة أخرى من الوزير جاء فيها: الله يخرب بيتك فقد نطقت بما هو اسوأ مما قاله العازف الموسيقي!
وقعت في غرام التلفزيون وأنا بالمرحلة الثانوية، وربما أسهم هذا الغرام في التحاقي بالعمل في التلفزيون السوداني في مرحلة مضطربة من عمر السودان على عهد المارشال جعفر نميري. وكان حال التليفزيون كما حال البلاد، فوضى عارمة، وكان رئيس قسم الدراما رجلا عنيدا، وكان أبوه يملك مزارع ضخمة وأجبر ابنه الذي كان مولعاً بالتمثيل على الإشراف على مشروع زراعي. وبعد الحصاد جمع الولد العنيد المزارعين ووزع عليهم المحصول كله بالتساوي وأشعل النيران في تجهيزات المشروع وهرب إلى مصر لدراسة التمثيل والإخراج المسرحي، فحرمه أبوه من الميراث، فقام الولد بتغيير اسمه بعد أن قرر حرمان أبيه من «الشهرة والمجد».
ذات مرة كان صاحبنا يخرج سهرة تلفزيونية مسرحية من إعداده وفرضت عليه إدارة التلفزيون ممثلاً معينا كان يكرهه ليلعب دور البطولة، وكانت المسرحية تبدأ بقيام فتاة بإطلاق النار على ذلك الممثل ليصاب بجرح سطحي يمهد لعلاقة عاطفية بينهما.. كان الممثل يتبجح بأنه انتصر على المخرج العنيد... وجاءت ساعة التسجيل وانطلقت الرصاصة فسقط الممثل ممسكا بكتفه، عندئذ صاح المخرج «ستوب».. أوقف التسجيل، ثم توجه إلى الممثل قائلا: «يللا... اطلع بره.. أنت مت خلاص..» ووسط دهشة الحضور أعلن المخرج أنه عدل النص بحيث يموت صاحب الدور (البطل) مع بداية المسرحية ولم يكن هناك من سبيل للاعتراض على ذلك لأنه كاتب ومعد النص.. وتسنى له بذلك التخلص من الممثل المفروض عليه.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك