من المواد المهمة المطروحة على مائدة نقاش اللجنة المختصة في مجلس النواب المادة (353) من المرسوم بقانون رقم 15 لسنة 1976 بإصدار قانون العقوبات البحريني والتي تنص أنه: (لا يحكم بعقوبة ما على من ارتكب إحدى الجرائم المنصوص عليها في المواد السابقة إذا عقد زواج صحيح بينه وبين المجني عليها. فإذا كان قد صدر عليه حكم نهائي قبل عقد الزواج يوقف تنفيذه وتنتهي آثاره الجنائية).
ويُعدّ المجتمع البحريني من المجتمعات المتمدّنة المنفتحة التي يرتفع فيها سقف الحريات الشخصية، وعلى الرغم من الانفتاح الفكري في البحرين فإن مجتمعنا الشرقي الأصل يبقى مجتمعاً محافظاً، ويشكل الشرف عنده خطاً أحمر لا يُقبل المساس به. صحيح أن جرائم الشرف معدومة فيه، إلا أنه يبقى من الثوابت المهمة التي لا تفريط فيها مجتمعياً وشرعياً.
وتكمن أهمية التشريعات (القوانين) في المجتمعات في الدور الذي تضطلع به لتنظيم سلوك الأفراد، وإقرار حقوقهم وكفالة حرياتهم وحماية المصلحة العامة والمصالح الخاصة، لذا فان قانون العقوبات أو كما يُعرف «بالقانون الجزائي أو القانون الجنائي» يكون دائماً هو الحارس والرقيب على السلوك وحفظ الحقوق والحريات، فيُجرّم بعض الافعال التي تُشكل خطراً وتُحدث ضرراً يطول النظام العام أو ينال من حقوق وحريات أفراد المجتمع، فالأصل أن أحكام قانون العقوبات تُحقق الحماية لمصلحة المجني عليه وللمصلحة العامة (الحق العام والحق الخاص) فيما تُحقق العقوبات ذاتها الردع العام والردع الخاص.
وبالعودة إلى قانون العقوبات البحريني، فقد خصص الباب الثامن منه للجرائم الواقعة على الأشخاص، حيث تناول في الفصل الثاني جرائم الاغتصاب والاعتداء على العرض، فعاقب على الأفعال الآتية: مواقعة الأنثى دون رضاها، ومواقعة الأنثى التي أتمّت السادسة عشرة ولم تتم الحادية والعشرين برضاها، مع تشديد عقوبة مواقعة الأنثى القاصر التي لم تتم السادسة عشرة برضاها، الاعتداء على عرض الذكور، إتيان الأفعال المخلّة بالحياء علناً أو مع أنثى في غير العلن، التعرض لأنثى على وجه يخدش حياءها بالقول أو بالفعل في طريق عام أو مكان مطروق أو بطريق الهاتف. ثم جاءت المادة (353) لتُقرر إعفاء الجاني من العقوبة في حال زواج صحيح بينه وبين المجني عليها في جميع الجرائم التي سبق ذكرها، أي مع استبعاد جريمة الاعتداء على العرض المتعلقة بالذكور باعتبار عدم جواز عقد زواج للمثليين شرعاً، فإن حكم هذه المادة يسري على بقية الأفعال التي تضمنتها هذه الفقرة والمرتبطة بالإناث.
لذا فالمادة (353) من قانون العقوبات البحرين ما فتئت مثاراً للتساؤلات والجدل لعقود من الزمن ولا سيما في جانبها المتعلق بالاغتصاب، حيث جعلت من جريمة اغتصاب الأنثى وكأنها من الجرائم التي يجوز التصالح عليها نسبياً، بحيث يُعفي عقد الزواج الصحيح الجاني من العقوبة، دون أن يضع هذا الحكم اعتباراً لما قد تكون المجني عليها قد كابدته من رعب وآلام نفسية وجسدية جراء عدم رضاها بالمواقعة أثناء الاغتصاب، وللآثار اللاحقة والمستمرة التي ستلاحقها ليلا ونهاراً في بقية أيامها وهي تعايش الشخص الذي قام باغتصابها، وحيث إن الأصل في الصلح والإعفاء من العقوبة يكون مرتبطاً بنسبة الضرر التي لحقت بالمجني عليه، فهل يعلم من أدرج هذه المادة ضمن مواد قانون العقوبات حجم الضرر النفسي والجسدي الذي يلحق بالأنثى التي تتعرض للاغتصاب؟ هل فكر في شعور المغتصبة وهي تعايش هذا السلوك باعتباره واجبا شرعيا؟
والسؤال هو: ما هي المصلحة المُراد حمايتها بحكم هذه المادة؟ هل ترمي إلى حماية مصلحة المجني عليها؟ أم مصلحة الجاني؟ إذ من الواضح من ظاهر النص أن المصلحة المحمية بهذا النص هي مصلحة الجاني، وليس الستر على المجني عليها أو على شرفها الذي تم استباحته غصباً بفعل الجاني، فجاء هذا النص ليمنح الجاني ملاذاً من توقيع العقاب، وليزيد من معاناة المجني عليها ويعاقبها على غير ذنب منها.
وفي رأيي فإن مثل هذا النص مخالف للمنطق وللإنسانية والعدالة ومخالف للشرع أيضاً، فمن ناحية أولى أن تكوين الأسرة باعتبارها لبنة أساسية ومهمة في بناء المجتمع بأسره يجب أن يكون على أسس صلبة لكي نضمن لها الديمومة والاستقرار، ذلك أن القوام الشرعي لتكوين الأسرة هو التراضي لتحقيق السكن والسكينة والمودة والرحمة، وحيث إن هذا الأساس قد تم تقويضه بفعل الاغتصاب، فما هو المتوقع من أسرة قامت على غير أساس؟ والسؤال الأهم يتعلق بفكرة صحة عقد الزواج لكونه قائما على رضا طرفيه، فكيف يمكننا أن نتحقق من رضا المُغتصبة بالزواج من الغاصب؟ وهي التي تكون في مركز قانوني ضعيف إذ تقبع بين سندان رأي ونظرة المجتمع وسخط عائلتها وبين خوفها من مستقبل مظلم يلاحقها دون ذنب ارتكبته؟
ومن ناحية أخرى فإن الأصل في الحقوق هو حكم الآية (45) من سورة المائدة: «وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص، فمن تصدق به فهو كفارة له، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون»، فما بالك إن كانت تلك الجروح تتراوح بين ملموسة وغير ملموسة؟
ومن المعلوم أن نص المادة (353) من الناحية القانونية هو نص غير ملزم للخصوم، فالخيار في يد المجني عليها والجاني، ولكن بعض الخيارات قد تكون ملزمة في أوضاع معينة، لذا -في رأيي- فإن إلغاء هذه المادة قد أصبح ضرورة، ولا سيما مع الاتجاهات الحديثة التي انتهجتها مملكة البحرين نحو السياسة العقابية بتوجهها نحو العقوبات البديلة والسجون المفتوحة.
والخلاصة أنه إن لم يكن زواج الجاني من المجني عليها في جريمة الاغتصاب قائماً على القبول والرضا بإرادة حُرّة، فإن المجتمع ليس بحاجة إلى أسرة لا مستقبل لها تكون عبئاً جديداً عليه، وأن الجاني يجب أن يتحمل نتائج جريمته ويُعاقب عليها.
Hanadi_aljowder@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك