العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

وللحصان شرف ومشاعر

معلوم‭ ‬أن‭ ‬معارضة‭ ‬أي‭ ‬حكومة‭ ‬أسهل‭ ‬من‭ ‬المشاركة‭ ‬فيها،‭ ‬ومن‭ ‬العبارات‭ ‬الدارجة‭ ‬في‭ ‬أدبيات‭ ‬المعارضة‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬كافة‭ ‬البلدان‭ ‬الشكوى‭ ‬من‭ ‬‮«‬سوء‭ ‬استخدام‭/ ‬استغلال‭ ‬السلطة‮»‬،‭ ‬والمراد‭ ‬بها‭ ‬أن‭ ‬أفراد‭ ‬أو‭ ‬تنظيمات‭ ‬بيدها‭ ‬صلاحيات‭ ‬وسلطات‭ ‬بموجب‭ ‬القانون‭ ‬السائد،‭ ‬تستخدم‭ ‬تلك‭ ‬الصلاحيات‭ ‬والسلطات‭ ‬لتعزيز‭ ‬مصالحها‭ ‬الذاتية،‭ ‬مما‭ ‬يعني‭ ‬ضمناً‭ ‬غمط‭ ‬حقوق‭ ‬الآخرين‭.‬

ولهذا‭ ‬نقول‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬إن‭ ‬الممسك‭ ‬بالقلم‭ ‬لا‭ ‬يكتب‭ ‬نفسه‭ ‬‮«‬شقي‮»‬،‭ ‬والقلم‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المثل‭ ‬الشعبي‭ ‬يعني‭ ‬السلطة،‭ ‬لأن‭ ‬القلم‭ ‬يستخدم‭ ‬في‭ ‬التوقيع‭/ ‬الإمضاء،‭ ‬وكانت‭ ‬سلطة‭ ‬التوقيع‭ ‬على‭ ‬المستندات‭ ‬وإلى‭ ‬عهد‭ ‬قريب‭ ‬حكرا‭ ‬لكبار‭ ‬الموظفين،‭ ‬ولكن‭ ‬صغار‭ ‬الموظفين‭ ‬انتزعوا‭ ‬ذلك‭ ‬الحق،‭ ‬فصار‭ ‬كل‭ ‬لاجئ‭ ‬إلى‭ ‬مكتب‭ ‬حكومي‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬مستند‭ ‬مطالبا‭ ‬بالحصول‭ ‬على‭ ‬إمضاءات‭ ‬الخفير‭ ‬‮«‬وانت‭ ‬طالع‮»‬‭. ‬وكثيرون‭ ‬يعتبرونني‭ ‬جباناً‭ ‬لأنني‭ ‬أصرح‭ ‬دائماً‭ ‬بأني‭ ‬أخاف‭ ‬من‭ ‬رجال‭ ‬الشرطة،‭ ‬ولو‭ ‬رأوا‭ ‬ما‭ ‬رأيته‭ ‬من‭ ‬رجال‭ ‬الشرطة‭ ‬لاعتبروني‭ ‬قدوة‭ ‬في‭ ‬الصمود‭ ‬و‭ (‬المرجلة‭). ‬وخوفي‭ ‬من‭ ‬رجال‭ ‬الأمن‭ ‬لازمني‭ ‬منذ‭ ‬الصغر‭ ‬لأنهم‭ ‬كانوا‭ ‬رمز‭ ‬السلطة‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬كنت‭ ‬أراه،‭ ‬ولأنهم‭ ‬كانوا‭ ‬دائماً‭ ‬مسلحين‭ ‬ويملكون‭ ‬حق‭ ‬ضرب‭ ‬الناس‭ ‬وحبسهم،‭ ‬فقد‭ ‬ارتبطوا‭ ‬في‭ ‬ذهني‭ ‬بالقمع‭ ‬والبطش‭. (‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬زمان‭ ‬‮«‬البوليس‮»‬‭ ‬السري‭ ‬وهو‭ ‬الشرطي‭ ‬الذي‭ ‬يلبس‭ ‬ملابس‭ ‬مدنية‭ ‬ويشمشم‭ ‬الأقوال‭ ‬والأفعال‭ ‬الصادرة‭ ‬عن‭ ‬المشتبه‭ ‬في‭ ‬أمر‭ ‬معارضتهم‭ ‬للحكم‭ ‬القائم،‭ ‬وبعدها‭ ‬أوكلت‭ ‬المهمة‭ ‬لأجهزة‭ ‬أمنية‭ ‬متخصصة‭).‬

وربما‭ ‬كان‭ ‬خوفي‭ ‬ناجماً‭ ‬عن‭ ‬طريقة‭ ‬التنشئة‭ ‬التي‭ ‬خضعنا‭ ‬لها‭ ‬والتي‭ ‬كان‭ ‬بموجبها‭ ‬يتم‭ ‬إرهابنا‭: ‬تسكت‭ ‬وإلا‭ ‬ننادي‭ ‬البوليس‭! ‬وكان‭ ‬أهلنا‭ ‬أيضاً‭ ‬يخيفوننا‭ ‬من‭ ‬الأطباء‭: ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬تسكت‭ ‬سنأخذك‭ ‬إلى‭ ‬الدكتور‭ ‬ليطعنك‭ ‬بالإبرة‭!  ‬أعوذ‭ ‬بالله‭ ‬من‭ ‬الإبرة‭. ‬هنا‭ ‬يكون‭ ‬السكوت‭ ‬فعلا‭ ‬من‭ ‬ذهب‭.‬

وسأحكي‭ ‬لكم‭ ‬اليوم‭ ‬قصة‭ ‬قصيرة‭ ‬تؤكد‭ ‬أن‭ ‬معي‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬الخوف‭ ‬من‭ ‬الشرطة‭: ‬سام‭ ‬براون‭ ‬شاب‭ ‬من‭ ‬ايرلندا‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬قمة‭ ‬الفرح‭ ‬والسعادة‭ ‬بنيله‭ ‬درجة‭ ‬جامعية‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬الإنجليزي‭ ‬من‭ ‬جامعة‭ ‬أوكسفورد‭ ‬العريقة،‭ ‬وبينما‭ ‬كان‭ ‬مع‭ ‬نفر‭ ‬من‭ ‬أصدقائه‭ ‬يصيحون‭ ‬وينططون‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬من‭ ‬فرط‭ ‬الانتشاء‭ ‬بانتهاء‭ ‬سنوات‭ ‬الدراسة‭ ‬والمذاكرة‭ ‬والخوف‭ ‬من‭ ‬الامتحانات،‭ ‬مروا‭ ‬برجل‭ ‬شرطة‭ ‬على‭ ‬ظهر‭ ‬حصان،‭ ‬فقال‭ ‬براون‭ ‬لزملائه‭ ‬انظروا‭ ‬كيف‭ ‬اختبر‭ ‬معرفة‭ ‬هذا‭ ‬الشرطي‭ ‬باللغة‭ ‬الانجليزية،‭ ‬وتوجه‭ ‬إلى‭ ‬الشرطي‭ ‬وقال‭ ‬له‭: ‬هل‭ ‬تعرف‭ ‬أن‭ ‬حصانك‭ ‬هذا‭ ‬‮«‬غاي‮»‬؟‭ ‬المعنى‭ ‬الأصلي‭ ‬لكلمة‭ ‬غايgay‭  ‬هو‭ ‬‮«‬مرح‭ ‬وسعيد‮»‬،‭ ‬ولكن‭ ‬وبسبب‭ ‬موضة‭ ‬وهوجة‭ ‬حقوق‭ ‬الأقليات‭ ‬صارت‭ ‬تستخدم‭ ‬لوصف‭ ‬مثليي‭ ‬الجنس‭ ‬أي‭ ‬الشاذين‭ ‬جنسياً،‭ ‬وصارت‭ ‬كلمة‭ (‬كُوِير‭ ‬queer‭) ‬الإنجليزية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬الشاذون‭ ‬يوصفون‭ ‬بها‭ ‬عبر‭ ‬القرون،‭ ‬ممنوعة‭ ‬قانوناً‭ ‬باعتبار‭ ‬أنها‭ ‬مهينة‭. ‬وبالمناسبة‭ ‬فإن‭ ‬الصحف‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬تصدر‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬ممنوع‭ ‬عليها‭ ‬استخدام‭ ‬عبارة‭ (‬شاذ‭ ‬جنسياً‭).‬

المهم‭ ‬أن‭ ‬صاحبنا‭ ‬براون‭ ‬فوجئ‭ ‬بثلاث‭ ‬سيارات‭ ‬تابعة‭ ‬لشرطة‭ ‬النجدة‭ ‬تحاصره‭ ‬وتنقله‭ ‬إلى‭ ‬الحبس‭ ‬حيث‭ ‬بقي‭ ‬هناك‭ ‬ليلة‭ ‬كاملة،‭ ‬ثم‭ ‬مثل‭ ‬أمام‭ ‬القاضي‭!!  ‬والتهمة؟‭  ‬انت‭ ‬قلت‭ ‬أن‭ ‬الحصان‭ ‬مثلي‭ ‬الجنس‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬استخفاف‭ ‬بمثليي‭ ‬الجنس‭ ‬وجرح‭ ‬لمشاعرهم‭. ‬قال‭ ‬لهم‭ ‬براون‭: ‬يا‭ ‬جماعة‭ ‬والله‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬ما‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬الحصان‭ ‬فعلاً‭ ‬مثليَّ‭ ‬الجنس،‭ ‬وقصدت‭ ‬فقط‭ ‬أن‭ ‬أثبت‭ ‬لأصدقائي‭ ‬أن‭ ‬الناس‭ ‬نسيت‭ ‬المعنى‭ ‬الأصلي‭ ‬لكلمة‭ ‬غاي،‭ ‬وباتت‭ ‬تربطها‭ ‬بسلوك‭ ‬جنسي‭ ‬معين‭!  ‬قالوا‭ ‬له‭: ‬بلاش‭ ‬كلام‭ ‬فارغ‭ ‬فقد‭ ‬قلت‭ ‬كلمة‭ ‬تسيء‭ ‬إلى‭ ‬فئة‭ ‬تمارس‭ ‬سلوكاً‭ ‬جنسياً‭ ‬معيناً‭ ‬وهذا‭ ‬يخالف‭ ‬المادة‭ ‬5‭ ‬من‭ ‬قانون‭ ‬النظام‭ ‬العام‭ ‬public‭ ‬order‭ ‬act‭  ‬وفي‭ ‬لحظة‭ ‬إلهام‭ ‬سأل‭ ‬سام‭ ‬براون‭ ‬القاضي‭: ‬هل‭ ‬تستطيع‭ ‬الشرطة‭ ‬إثبات‭ ‬أن‭ ‬الحصان‭ ‬أحس‭ ‬بالحرج‭ ‬والضيق‭ ‬لأنني‭ ‬افتراضا‭ ‬أثرت‭ ‬شكوكا‭ ‬حول‭ ‬نشاطه‭ ‬الجنسي؟‭  ‬وفور‭ ‬فراغ‭ ‬براون‭ ‬من‭ ‬طرح‭ ‬السؤال‭ ‬طلب‭ ‬ممثل‭ ‬الادعاء‭ ‬إسقاط‭ ‬التهمة‭ ‬وشطب‭ ‬القضية‭. ‬ولكن‭ ‬الصحف‭ ‬البريطانية‭ ‬فتحت‭ ‬القضية‭ ‬من‭ ‬زاوية‭ ‬أن‭ ‬شرطياً‭ ‬غبياً‭ ‬قام‭ ‬بتحريك‭ ‬ثلاث‭ ‬سيارات‭ ‬شرطة‭ ‬بها‭ ‬تسعة‭ ‬من‭ ‬رجال‭ ‬الأمن‭ ‬لاعتقال‭ ‬شاب‭ ‬بلا‭ ‬مبرر،‭ ‬سوى‭ ‬أنه‭ ‬‭ ‬أي‭ ‬الشرطي‭ ‬يريد‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ (‬شرف‭) ‬حصانه‭! ‬وبعد‭ ‬هذا،‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يعاير‭ ‬أبو‭ ‬الجعافر‭ ‬بأنه‭ ‬جبان‭ ‬لأنه‭ ‬يخاف‭ ‬من‭ ‬رجال‭ ‬الشرطة‭! ‬عاش‭ ‬الجبن‭. ‬وعاش‭ ‬المخلل‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا