هوامش
عبدالله الأيوبي
ayoobi99@gmail.com
البراجماتية التركية في العلاقات الدولية
على الرغم من بعض الأخطاء التي وقعت فيها السياسة التركية الخارجية، خاصة على المستوى الإقليمي وتحديدا علاقات تركيا مع بعض دول الجوار (سوريا والعراق) وانغماس تركيا في أحداث ما سمي بـ«الربيع العربي» واتخاذها موقفا مؤيدا وداعما لجماعات الإسلام السياسي، وخاصة «جماعة الإخوان المسلمين» التي انخرطت بقوة في تلك الأحداث، هذا الموقف التركي أدى إلى تأزم علاقاتها مع مصر، الدولة العربية المحورية، وأدى كذلك إلى تصدع علاقات أنقرة مع بعض العواصم العربية الأخرى، إلا أن ذلك لا يحول دون الإقرار بأن السياسة التركية على مستوى العلاقات الدولية اتسمت بالبراجماتية والعقلانية، آخذة في الاعتبار المصالح الوطنية التركية من جهة، واستقلالية القرار الوطني من جهة أخرى، وهو الأمر الذي أكسب أنقرة حضورا دوليا مميزا وقويا.
أيًّا تكن المبررات التي ساقتها أنقرة للدفاع عن مواقفها تجاه العديد من القضايا الإقليمية، مثل الأحداث في سوريا وليبيا، أو موقفها من تطورات الأحداث التي شهدتها مصر بعد الإطاحة بنظام الرئيس الراحل حسني مبارك ومن ثم إزاحة الرئيس الراحل أيضا محمد مرسي، فإن العقلانية والبراجماتية السياسية التركية أسهمت حتى الآن في الترطيب والتطبيع المتفاوت لعلاقات أنقرة مع جميع العواصم الإقليمية تقريبا، بما في ذلك مع دمشق التي وصلت علاقاتها مع أنقرة إلى حد القطيعة التامة، وخاصة أن تركيا تحتل جزءا كبيرا من أراضي الشمال السوري تحت ذريعة محاربة الجماعات الكردية الانفصالية التي تقول تركيا إنها تهدد أمنها الوطني.
الاختبار الأكثر جدية الذي واجهته العقلانية والبراجماتية السياسية التركية، نشأ بعد انطلاق العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، حيث سارعت دول حلف الناتو والدول الغربية الأخرى إلى الزج بجزء كبير من إمكانياتها الاقتصادية والمالية والعسكرية في هذا الصراع من خلال تبني سياسة الدعم اللامحدود للجانب الأوكراني وكذلك فرض عقوبات اقتصادية وسياسية ومالية وثقافية ورياضية غير مسبوقة على روسيا، وهي السياسة التي رفضت تركيا الانخراط فيها مع أن أنقرة هي عضو مؤثر في حلف شمال الأطلسي، حيث قاومت أنقرة كل الضغوطات الأمريكية والغربية لفك علاقات الصداقة والتعاون الاقتصادي التي تربطها مع موسكو، دون أن تتخلى عن موقفها السياسي الرافض للعملية العسكرية الروسية.
هذا الموقف العقلاني لأنقرة والنابع من المصلحة الوطنية الخالصة والتمسك المبدئي باستقلالية القرار الوطني، أعطى لتركيا ميزة الاحتفاظ بقنوات اتصال قوية وموثوقة أيضا مع طرفي الصراع (روسيا وأوكرانيا) وقادت عملية وساطة كادت تحقق نجاحا كبيرا حين جمعت الطرفين المتصارعين حول طاولة مفاوضات مباشرة في تركيا، لكن تدخل أطراف غربية أفشل هذه المفاوضات، ورغم ذلك حافظت أنقرة على علاقات قوية ومتطورة مع موسكو وكييف وأبقت على قنوات الاتصالات السياسية المباشرة مع العاصمتين على أعلى مستوياتها السياسية.
قبل عدة أيام مضت (الخميس الماضي) شارك الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوجان، عبر تقنية الفيديو، في حفل تحميل الوقود النووي في محطة الطاقة النووية «أكويو»، وهي أول محطة نووية في تركيا تنشئها روسيا، وقال بوتين: إن العلاقات الروسية التركية لم يسبق لها أن وصلت إلى هذا المستوى، فمثل هذا التطور في علاقات تركيا مع روسيا لم يلق ترحيبا لدى الدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية التي طالبت أنقرة بالحد من علاقاتها مع روسيا، بل والانخراط في العقوبات المفروضة على موسكو، لكن أنقرة ترفض ذلك وتؤكد أن مصالحها الوطنية ومصالح شعبها واستقلالية قراراتها الوطنية فوق كل الاعتبارات.
هذه السياسة التركية تعكس بصدق مدى ما تتمتع به أنقرة من استقلالية حقيقية فيما يتعلق بقراراتها ومواقفها السياسية تجاه القضايا المختلفة، فهي في الوقت الذي تعتبر فيه عضوا مؤثرا ومحوريا في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، إلا أنها ترفض الانسياق وراء سياسة انزلاق دول الحلف في الصراع الروسي الأوكراني، من منطلق أن موقفا كهذا سينعكس سلبا على علاقاتها مع جارتها الكبيرة روسيا، وسيكون لذلك مردود سلبي على المصالح الوطنية التركية، حيث ترتبط موسكو وأنقرة بعلاقات اقتصادية قوية، إذ وصل حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى نحو 30 مليار دولار سنويا وهناك توقعات برفع التبادل التجاري بين البلدين إلى مائة مليار دولار.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك