العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

بلا مهارات أو هوايات

شكوت‭ ‬مرارا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬يحزّ‭ ‬في‭ ‬نفسي‭ ‬هو‭ ‬أنني‭ ‬لا‭ ‬أحسن‭ ‬استخدام‭ ‬يدي‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬الأكل‭ ‬والكتابة‭ ‬بالقلم‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬لوحة‭ ‬مفاتيح‭ ‬الكمبيوتر،‭ (‬وفاشل‭ ‬جدا‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬على‭ ‬الهاتف‭ ‬الذكي‭)!! ‬أعني‭ ‬أنني‭ ‬لا‭ ‬أتمتع‭ ‬بأي‭ ‬مهارات‭ ‬يدوية،‭ ‬ويعجبني‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الناس‭ ‬أنهم‭ ‬يستطيعون‭ ‬تبديل‭ ‬أقفال‭ ‬الأبواب‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬الاستعانة‭ ‬بنجار،‭ ‬وفكّ‭ ‬أحواض‭ ‬الغسيل‭ ‬لإزالة‭ ‬ما‭ ‬يسدها،‭ ‬ومعالجة‭ ‬الأعطال‭ ‬الكهربائية‭. ‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬فلَديَّ‭ ‬ولع‭ ‬عجيب‭ ‬بمفاتيح‭ ‬الحل‭ ‬والربط‭ ‬والمفكات‭ ‬التي‭ ‬يسميها‭ ‬أهل‭ ‬الخليج‭ (‬سكروب‭)‬،‭ ‬وهي‭ ‬تحريف‭ ‬لمسماها‭ ‬الإنجليزي‭ (‬سكرو‭ ‬درايفر‭)‬،‭ ‬ولديّ‭ ‬تشكيلة‭ ‬من‭ ‬المطارق‭ ‬الحديدية‭ ‬وزرديات‭ ‬وكماشات،‭ ‬أحتفظ‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬صندوق‭ ‬أنيق،‭ ‬وأستخدمها‭ ‬أحياناً،‭ ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬الأحيان‭ ‬بطريقة‭ (‬جاء‭ ‬يكحلها‭ ‬عماها‭)‬،‭ ‬ويعلوها‭ ‬الصدأ‭ ‬كل‭ ‬بضع‭ ‬سنوات‭ ‬فأشتري‭ ‬بدائل‭ ‬بها،‭ ‬والأمر‭ ‬الآخر‭ ‬هو‭ ‬أنه‭ ‬ليست‭ ‬لي‭ ‬هواية‭ ‬معينة،‭ ‬كان‭ ‬والد‭ ‬زوجتي‭ ‬مولعا‭ ‬بصيد‭ ‬السمك،‭ ‬وذات‭ ‬مرة‭ ‬رافقته‭ ‬إلى‭ ‬موقع‭ ‬خارج‭ ‬مدينة‭ ‬الخرطوم،‭ ‬وجلسنا‭ ‬نحو‭ ‬ساعتين‭ ‬نحدق‭ ‬في‭ ‬النيل‭ ‬وأيدينا‭ ‬ممسكة‭ ‬بأعواد‭ ‬خيوط‭ ‬السنارات،‭ ‬ومن‭ ‬فرط‭ ‬الضيق‭ ‬بتلك‭ ‬الجلسة‭ ‬المملّة‭ ‬ربطت‭ ‬العود‭ ‬الذي‭ ‬يخصني‭ ‬إلى‭ ‬شجرة‭ ‬واستأذنت‭ ‬منه‭ ‬بزعم‭ ‬العودة‭ ‬بعد‭ ‬قليل،‭ ‬وهربت‭ ‬بجلدي‭! ‬والغريب‭ ‬في‭ ‬أمر‭ ‬والد‭ ‬المدام‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يجلس‭ ‬يصطاد‭ ‬السمك‭ ‬لساعات‭ ‬ثم‭ ‬يحمل‭ ‬حصيلة‭ ‬الصيد‭ ‬ويطوف‭ ‬بها‭ ‬على‭ ‬بيوت‭ ‬الأقارب‭ ‬موزعا‭ ‬الأسماك،‭ ‬وقد‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬بيته‭ ‬صفر‭ ‬اليدين،‭ ‬فقلت‭ ‬له‭ ‬معقبا‭ ‬على‭ ‬ذلك‭: ‬يعني‭ ‬أنت‭ ‬فقط‭ ‬عدوّ‭ ‬للبيئة‭ ‬وتريد‭ ‬تقليص‭ ‬ثروة‭ ‬البلاد‭ ‬السمكية‭ ‬بدليل‭ ‬أنك‭ ‬غير‭ ‬معنيّ‭ ‬بأكل‭ ‬السمك‭ ‬الذي‭ ‬تصطاده‭.‬

لا‭ ‬أعرف‭ ‬طريقة‭ ‬لتزجية‭ ‬وتمضية‭ ‬الوقت‭ ‬سوى‭ ‬القراءة،‭ ‬أو‭ ‬مشاهدة‭ ‬قنوات‭ ‬تلفزيونية‭ ‬بعينها‭ (‬ليس‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬قنوات‭ ‬عربية‭ ‬رسمية‭ ‬أو‭ ‬تجارية‭ ‬لأنني‭ ‬أعاني‭ ‬سلفاً‭ ‬من‭ ‬ارتفاع‭ ‬ضغط‭ ‬الدم‭!)‬،‭ ‬وكلما‭ ‬شكوت‭ ‬أمام‭ ‬أصدقائي‭ ‬من‭ ‬أنني‭ ‬أحسّ‭ ‬بالقصور‭ ‬أو‭ ‬التقصير‭ ‬لعدم‭ ‬إجادتي‭ ‬حرفة‭ ‬يدوية‭ ‬قالوا‭ ‬لي‭: ‬‮«‬أنت‭ ‬كاتب‭ ‬وتلك‭ ‬مهارة‭ ‬يدوية‮»‬،‭ ‬وهذا‭ ‬كلام‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬‮«‬التعزية‭ ‬والمواساة‮»‬،‭ ‬حتى‭ ‬خطّي‭ ‬ليس‭ ‬جميلا،‭ ‬كي‭ ‬يقال‭ ‬إن‭ ‬ممارستي‭ ‬الكتابة‭ ‬تأكيد‭ ‬على‭ ‬أنني‭ ‬أتمتع‭ ‬بمهارات‭ ‬يدوية‭. ‬ربما‭ ‬يقصدون‭ ‬أنني‭ ‬كاتب‭ ‬له‭ ‬مواد‭ ‬منشورة،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فإنهم‭ ‬يعتبرون‭ ‬ذلك‭ ‬دليل‭ ‬مهارة‭ ‬يدوية‭! ‬هذا‭ ‬ليس‭ ‬صحيحاً،‭ ‬فكون‭ ‬أن‭ ‬لك‭ ‬مقالات‭ ‬منشورة‭ ‬قد‭ ‬يعني‭ ‬أنك‭ ‬صاحب‭ ‬مهارات‭ ‬ذهنية،‭ ‬وليس‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬يميزك‭ ‬عن‭ ‬الآخرين،‭ ‬فغالبية‭ ‬الناس‭ ‬يتمتعون‭ ‬بمهارات‭ ‬ذهنية‭. ‬أعرف‭ ‬شاباً‭ ‬كان‭ ‬يعمل‭ ‬في‭ ‬استعلامات‭ ‬الهاتف،‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬الهاتف‭ ‬الجوال‭ ‬والإنترنت،‭ ‬وكان‭ ‬يحفظ‭ ‬عن‭ ‬ظهر‭ ‬قلب‭ ‬أرقام‭ ‬هواتف‭ ‬جميع‭ ‬الشركات‭ ‬والمؤسسات‭ ‬التجارية‭ ‬والفنادق‭ ‬ومكاتب‭ ‬الطيران‭ ‬وكبار‭ ‬الشخصيات‭. ‬هذا‭ ‬الشاب‭ ‬يملك‭ ‬مهارات‭ ‬ذهنية‭ ‬متميزة‭ ‬للغاية،‭ ‬وملايين‭ ‬الناس‭ ‬يتمتعون‭ ‬بقدرات‭ ‬ذهنية‭ ‬عالية‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يكونوا‭ ‬من‭ ‬حملة‭ ‬الشهادات‭ ‬العلمية‭ ‬أو‭ ‬الألقاب‭ ‬الوظيفية‭ ‬الكبيرة،‭ ‬ثم‭ ‬إن‭ ‬هناك‭ ‬أناساً‭ ‬كثيرين‭ ‬يملكون‭ ‬قدرات‭ ‬على‭ ‬الكتابة‭ ‬جديرة‭ ‬بالإعجاب‭ ‬ولكنهم‭ ‬لا‭ ‬يكتبون،‭ ‬أو‭ ‬يكتبون‭ ‬ولا‭ ‬ينشرون‭.‬

وكثيرون‭ ‬يسألونني‭ ‬بين‭ ‬الحين‭ ‬والآخر‭: ‬كيف‭ ‬يتسنى‭ ‬لك‭ ‬كتابة‭ ‬مقال‭ ‬يومياً‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬عدة‭ ‬سنوات،‭ ‬وقد‭ ‬يضيف‭ ‬بعضهم‭: ‬أنت‭ ‬عبقري‭.. ‬يا‭ ‬ريت‭ (‬ليت‭) ‬يا‭ ‬خويا‭.. ‬لو‭ ‬كان‭ ‬كتابة‭ ‬مقال‭ ‬يومي‭ ‬دليل‭ ‬عبقرية‭ ‬لصار‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬بلد‭ ‬عربي‭ ‬عدة‭ ‬عباقرة‭ ‬يشار‭ ‬إليهم‭ ‬بالبنان،‭ ‬ولكان‭ ‬حظهم‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬حظوظ‭ ‬كل‭ ‬المهنيين‭ ‬ورجال‭ ‬الأعمال‭. ‬وأحسب‭ ‬أنني‭ ‬على‭ ‬حق‭ ‬في‭ ‬اعتقاد‭ ‬أن‭ ‬المهارات‭ ‬اليدوية‭ ‬أهم‭ ‬من‭ ‬المهارات‭ ‬الذهنية‭ ‬أو‭ ‬مكملة‭ ‬لها‭. ‬وفي‭ ‬الإحساس‭ ‬بأن‭ ‬النظام‭ ‬التعليمي‭ ‬في‭ ‬بلداننا‭ ‬ظلمنا‭ ‬كثيراً‭ ‬عندما‭ ‬شحن‭ ‬رؤوسنا‭ ‬بمحفوظات،‭ ‬بل‭ ‬زرع‭ ‬فينا‭ ‬احتقار‭ ‬العمل‭ ‬اليدوي‭.‬

في‭ ‬بيتنا‭ ‬نعتمد‭ ‬كلياً‭ ‬على‭ ‬مهارات‭ ‬أصغر‭ ‬عيالي‭ ‬لفكّ‭ ‬وتركيب‭ ‬الأجهزة‭ ‬الكهربائية‭ ‬والإلكترونية‭ ‬ومعالجة‭ ‬ما‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬خلل،‭ ‬ذلك‭ ‬أنه‭ ‬نتاج‭ ‬نظام‭ ‬تعليمي‭ ‬يعطي‭ ‬العمل‭ ‬اليدوي‭ ‬مساحة‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬مناهجه‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا