العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

عن الدراسة وسنين الدراسة

كنت‭ ‬أسعد‭ ‬الناس‭ ‬بالتخرج‭ ‬في‭ ‬الجامعة،‭ ‬ليس‭ ‬لأنني‭ ‬حصلت‭ ‬على‭ ‬البكالوريوس‭ ‬ولكن‭ ‬لأن‭ ‬تلك‭ ‬الشهادة‭ ‬كانت‭ ‬تعني‭ ‬طلاق‭ ‬مرحلة‭ ‬الدراسة‭ ‬والتوتر‭ ‬والأرق‭ ‬والقلق‭ ‬من‭ ‬الامتحانات‭ ‬والنتائج،‭ ‬وما‭ ‬يصاحب‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬عتاب‭ ‬وعقاب،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬تزوير‭ ‬نتائج‭ ‬الامتحانات‭ ‬على‭ ‬عهدنا‭ ‬بكراسي‭ ‬الدراسة‭ ‬ممكنا‭ ‬لأن‭ ‬إدارات‭ ‬المدارس‭ ‬كانت‭ ‬ترسل‭ ‬تلك‭ ‬النتائج‭ ‬مباشرة‭ ‬الى‭ ‬أولياء‭ ‬الأمور،‭ ‬وعشت‭ ‬عدة‭ ‬سنوات‭ ‬بعد‭ ‬هجر‭ ‬مقاعد‭ ‬الدراسة،‭ ‬مرتاح‭ ‬البال‭ ‬نسبياً‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تزوجت‭ ‬وأنجبت،‭ ‬وصار‭ ‬لي‭ ‬عيال‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬كبروا‭ ‬ودخلوا‭ ‬المدارس،‭ ‬فعشت‭ ‬مجدداً‭ ‬أجواء‭ ‬التوتر‭ ‬والقلق‭ ‬والضيق‭ ‬من‭ ‬‮«‬الدراسة‮»‬‭: ‬يا‭ ‬ولد‭ ‬ذاكر‭ ‬دروسك‭.. ‬يا‭ ‬يابا‭ ‬أريد‭ ‬دفتر‭ ‬رسم‭.. ‬يا‭ ‬بنت‭ ‬لمي‭ ‬شنطتك‭ ‬المدرسية‭.. ‬ولا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬توصيل‭ ‬زيد‭ ‬وزبيدة‭ ‬إلى‭ ‬المدارس‭ ‬في‭ ‬مواقيت‭ ‬معلومة‭ ‬ثم‭ ‬إعادتهما‭ ‬إلى‭ ‬البيت‭.‬

وحقيقة‭ ‬الأمر‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬توتر‭ ‬الآخرين‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يوترني‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬تركت‭ ‬مقاعد‭ ‬الدراسة،‭ ‬وكان‭ ‬الله‭ ‬قد‭ ‬حباني‭ ‬بميزة‭ ‬عجيبة‭ ‬هي‭ ‬أنني‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أرهب‭ ‬الامتحانات،‭ ‬حتى‭ ‬امتحانات‭ ‬الرياضيات‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬أعلم‭ ‬أنني‭ ‬سأرسب‭ ‬فيها‭ ‬بالمزيكة،‭ ‬كنت‭ ‬أجلس‭ ‬إليها‭ ‬متماسكا‭ ‬و«ثابتا‮»‬،‭ ‬وكانت‭ ‬لي‭ ‬فلسفتي‭ ‬الخاصة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬وقد‭ ‬أورثتها‭ ‬لعيالي‭: ‬اعمل‭ ‬اللي‭ ‬عليك،‭ ‬اي‭ ‬استعد‭ ‬للامتحان‭ ‬بما‭ ‬يسمى‭ ‬المذاكرة‭ ‬ولا‭ ‬معنى‭ ‬بعدها‭ ‬للتوتر‭ ‬أو‭ ‬القلق‭ ‬قبل‭ ‬أو‭ ‬خلال‭ ‬الامتحان‭ ‬لأنك‭ ‬ستحصد‭ ‬من‭ ‬الدرجات‭ ‬ما‭ ‬يعادل‭ ‬جهدك‭ ‬المبذول‭ ‬أو‭ ‬أقل‭ ‬أو‭ ‬أكثر‭ ‬منه‭. ‬يعني‭ ‬اللي‭ ‬بدو‭ ‬يصير،‭ ‬يصير‭.‬

ولكن‭ ‬أجواء‭ ‬الامتحانات‭ ‬الكئيبة‭ ‬وتوتر‭ ‬زملائي‭ ‬وأصدقائي‭ ‬وأقاربي‭ ‬من‭ ‬حولي‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يجعلني‭ ‬أضيق‭ ‬بالامتحانات،‭ ‬بل‭ ‬صرت‭ ‬أضيق‭ ‬بأجواء‭ ‬الدراسة‭ ‬عموما،‭ ‬وأحس‭ ‬بالضيق‭ ‬مع‭ ‬بداية‭ ‬كل‭ ‬عام‭ ‬دراسي‭: ‬غليان‭ ‬في‭ ‬حركة‭ ‬المرور‭. ‬وفي‭ ‬الأسواق‭ ‬تحسب‭ ‬أن‭ ‬العيد‭ ‬على‭ ‬الأبواب‭.. ‬هجوم‭ ‬على‭ ‬متاجر‭ ‬الأقمشة‭ ‬لشراء‭ ‬الزي‭ ‬المدرسي،‭ ‬ومعارك‭ ‬في‭ ‬محلات‭ ‬الخياطة‭ ‬لأن‭ ‬الخياط‭ ‬يقول‭ ‬إن‭ ‬الملابس‭ ‬لن‭ ‬تكون‭ ‬جاهزة‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬ثلاثة‭ ‬أيام‭ ‬من‭ ‬بدء‭ ‬العام‭ ‬الدراسي‭ (‬يذكرني‭ ‬هذا‭ ‬بطرفة‭ ‬تروى‭ ‬عن‭ ‬خياط‭ ‬غير‭ ‬مسلم‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬جنوب‭ ‬السودان‭ ‬جاءه‭ ‬نفر‭ ‬فقدوا‭ ‬عزيزا‭ ‬لديهم‭ ‬بالكفن‭ ‬ليخيطه،‭ ‬فوضع‭ ‬قماش‭ ‬الكفن‭ ‬في‭ ‬صندوق‭ ‬وقال‭ ‬لهم‭: ‬تعالوا‭ ‬بعد‭ ‬يومين‭).. ‬أم‭ ‬محمد‭ ‬تشتم‭ ‬الخياط‭: ‬ما‭ ‬فيك‭ ‬خير‭.. ‬حنا‭ ‬زبائنك‭ ‬من‭ ‬خمس‭ ‬سنوات‭ ‬وتريد‭ ‬البنت‭ ‬تروح‭ ‬المدرسة‭ ‬بمريول‭ ‬العام‭ ‬اللي‭ ‬طاف‭ (‬فات‭)‬؟‭ ‬فيقول‭ ‬الخياط‭: ‬ماما‭ ‬إنتي‭ ‬مافي‭ ‬فكر‭ ‬مدرسة‭ ‬في‭ ‬إلا‭ ‬قبل‭ ‬يوم‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬سنة‭ ‬جديد‭... ‬كلش‭ ‬نفرات‭ ‬جيب‭ ‬مريول‭ ‬قبل‭ ‬أشرة‭ ‬كمسة‭ (‬يعني‭ ‬خمسة‭ ‬عشر‭) ‬يوم‭.. ‬وإنتي‭ ‬جيب‭ ‬قماش‭ ‬قبل‭ ‬أشرة‭ ‬كمسة‭ ‬ساءة‭ (‬ساعة‭)‬؟‭ ‬وتقول‭ ‬له‭ ‬أم‭ ‬محمد‭: ‬مالت‭ ‬عليك‭.. ‬ولكن‭ ‬الخياط‭ ‬يبتسم‭ ‬من‭ ‬موقع‭ ‬قوة‭!.. ‬والمكتبات؟‭ ‬هجوم‭ ‬على‭ ‬أقلام‭ ‬الرصاص‭ ‬والحبر‭ ‬والدفاتر‭ ‬والحقائب‭ ‬المدرسية‭ ‬والصغار‭ ‬يرفضون‭ ‬معظم‭ ‬المعروض‭ ‬من‭ ‬الحقائب‭ ‬ويرفضون‭ ‬استخدام‭ ‬حقائب‭ ‬العام‭ ‬الماضي‭ ‬‮«‬لأن‭ ‬موضتها‭ ‬راحت‮»‬‭.. ‬هذا‭ ‬يريد‭ ‬حقيبة‭ ‬أديداس‭ ‬وذاك‭ ‬حقيبة‭ ‬نايكي‭.‬

ذات‭ ‬عام‭ ‬أصر‭ ‬ولدي‭ ‬لؤي‭ ‬على‭ ‬شراء‭ ‬حقيبة‭ ‬نايكي،‭ ‬تلك‭ ‬الشركة‭ ‬التي‭ ‬اشتهرت‭ ‬بصنع‭ ‬مستلزمات‭ ‬الرياضة‭ ‬واكتشفت‭ ‬أن‭ ‬ثمن‭ ‬الحقيبة‭ ‬يعادل‭ ‬ما‭ ‬أنفقه‭ ‬أهلي‭ ‬على‭ ‬تعليمي‭ ‬منذ‭ ‬المرحلة‭ ‬الابتدائية‭ ‬حتى‭ ‬حصلت‭ ‬على‭ ‬عمل‭ ‬بعد‭ ‬نيل‭ ‬الشهادة‭ ‬الجامعية،‭ ‬فقلت‭ ‬له‭ ‬إنه‭ ‬سيقتني‭ ‬حقيبة‭ ‬نايكي‭ ‬المنشودة،‭ ‬واشتريت‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬ظهره‭ ‬حقيبة‭ ‬عادية‭ ‬بمبلغ‭ ‬زهيد‭ ‬وذهبت‭ ‬إلى‭ ‬محل‭ ‬خطاط‭ ‬هندي‭ ‬وطلبت‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يرسم‭ ‬علامة‭ ‬‮«‬صح‮»‬‭ ‬على‭ ‬جانبي‭ ‬الشنطة‭ ‬بحيث‭ ‬تأتي‭ ‬مطابقة‭ ‬لشعار‭ ‬نايكي‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬علامة‭ ‬‮«‬صح‮»‬‭ ‬وفرح‭ ‬الصغير‭ ‬بالشنطة‭ ‬وكان‭ ‬موضع‭ ‬حسد‭ ‬بعض‭ ‬زملائه‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يحملون‭ ‬حقائب‭ ‬ميكي‭ ‬وبطوط‭ (‬لسوء‭ ‬حظي‭ ‬صمدت‭ ‬العلامة‭ ‬نحو‭ ‬شهرين‭ ‬فاضطررت‭ ‬إلى‭ ‬شراء‭ ‬عدة‭ ‬حقائب‭ ‬نايكي‭ ‬بالطريقة‭ ‬الهندية‭ ‬تلك‭ ‬له‭ ‬خلال‭ ‬عام‭ ‬دراسي‭ ‬واحد‭).‬

كلما‭ ‬رأيت‭ ‬طفلاً‭ ‬أو‭ ‬رضيعا‭ ‬يبتسم‭ ‬ويقفز‭ ‬هانئ‭ ‬البال‭ ‬قلت‭ ‬في‭ ‬سري‭: ‬المسكين‭ ‬ما‭ ‬يدري‭ ‬المستخبي‭. ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬16‭ ‬سنة‭ ‬من‭ ‬وجع‭ ‬الرأس‭ ‬والواجبات‭ ‬المدرسية‭ ‬وحمل‭ ‬حقائب‭ ‬تسبب‭ ‬اعوجاج‭ ‬السلسة‭ ‬الفقرية‭. ‬وشتائم‭ ‬لأنه‭ ‬رسب‭ ‬في‭ ‬الرياضيات‭ ‬أو‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬المدرسة‭ ‬متأخراً‭.. ‬وبعد‭ ‬الـ16‭ ‬سنة‭ ‬قد‭ ‬يكتشف‭ ‬أنه‭ ‬ظل‭ ‬طوال‭ ‬تلك‭ ‬الأعوام‭ ‬حماراً‭ ‬يحمل‭ ‬أسفارا‭ ‬وأنه‭ ‬لم‭ ‬يتعلم‭ ‬شيئاً‭ ‬ذا‭ ‬بال‭ ‬وأن‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يتبهدل‭ ‬نحو‭ ‬أربع‭ ‬سنوات‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬المقاهي‭ ‬والأرصفة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يحصل‭ ‬على‭ ‬عمل‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا