العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

كم هن قويات

منذ‭ ‬مطلع‭ ‬الألفية‭ ‬الثالثة‭ ‬والهند‭ ‬تشهد‭ ‬ظاهرة‭ ‬غريبة‭: ‬الإقبال‭ ‬على‭ ‬دراسة‭ ‬الأشعة‭ ‬الطبية‭ ‬أعلى‭ ‬من‭ ‬الإقبال‭ ‬على‭ ‬دراسة‭ ‬الطب‭ ‬أو‭ ‬الصيدلة‭ ‬أو‭ ‬علوم‭ ‬المختبرات‭ ‬الطبية،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬أطباء‭ ‬اختصاصيين‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬مثل‭ ‬العيون‭ ‬والباطنية‭ ‬والغدد‭ ‬والعظام‭ ‬هجروا‭ ‬تخصصاتهم‭ ‬ودرسوا‭ ‬علوم‭ ‬الأشعة،‭ ‬والسبب‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬موعد‭ ‬مع‭ ‬فني‭ ‬أو‭ ‬طبيب‭ ‬يتخصص‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الكشف‭ ‬على‭ ‬الحوامل‭ ‬بالموجات‭ ‬الصوتية‭ (‬السونار‭) ‬يتطلب‭ ‬‮«‬واسطة‮»‬‭ ‬قوية‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬القطاع‭ ‬الخاص‭.‬

وفي‭ ‬الهند‭ ‬اليوم‭ ‬عشرات‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬المراكز‭ ‬التي‭ ‬تحمل‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬الخصوبة‮»‬،‭ ‬ولكن‭ ‬الغريب‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬أن‭ ‬زبائنها‭ ‬من‭ ‬النساء‭ ‬لا‭ ‬يعانين‭ ‬العقم،‭ ‬بل‭ ‬جميعهن‭ ‬من‭ ‬الحوامل،‭ ‬وتقدم‭ ‬تلك‭ ‬العيادات‭ ‬خدمات‭ ‬الكشف‭ ‬على‭ ‬الحوامل‭ ‬بالموجات‭ ‬الصوتية‭ ‬لتحديد‭ ‬جنس‭ ‬الجنين،‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬تعرف‭ ‬النساء‭ ‬أنهن‭ ‬حاملات‭ ‬ببنات‭ ‬حتى‭ ‬يتوجهن‭ ‬إلى‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬عيادات‭ ‬الإجهاض‭ ‬المنتشرة‭ ‬في‭ ‬الشوارع‭ ‬الخلفية‭ ‬في‭ ‬المدن،‭ ‬وجاء‭ ‬في‭ ‬تقرير‭ ‬نشرته‭ ‬مجلة‭ ‬لانسيت‭ ‬التي‭ ‬يصدرها‭ ‬المجلس‭ ‬الطبي‭ ‬البريطاني‭ ‬أن‭ ‬الهند‭ ‬تشهد‭ ‬إسقاط‭ ‬700‭ ‬ألف‭ ‬جنين‭ ‬أنثى‭ ‬سنوياً،‭ ‬لأن‭ ‬الهنود‭ ‬يعتبرون‭ ‬البنت‭ ‬عبئاً‭ ‬لأنها‭ (‬غير‭ ‬منتجة‭) ‬وتكلف‭ ‬الأسرة‭ ‬الكثير‭ ‬عند‭ ‬زواجها،‭ ‬لأن‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬الهند‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تدفع‭ ‬المهر‭ (‬الدُّوَري‭ ‬كما‭ ‬يسمونه‭).. ‬مما‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬عشرات‭ ‬الملايين‭ ‬من‭ ‬البنات‭ ‬تعرضن‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬سنوات‭ ‬للقتل‭ ‬بالإجهاض‭ ‬قبل‭ ‬اكتمال‭ ‬نموهن‭ ‬في‭ ‬أرحام‭ ‬أمهاتهن‭.‬

نحن‭ ‬أيضاً‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬لا‭ ‬نرحب‭ ‬كثيراً‭ ‬بالبنات‭ ‬ونفضل‭ ‬أن‭ ‬ننجب‭ ‬ذكوراً،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬منا‭ ‬من‭ ‬يعتقد‭ ‬أن‭ ‬إنجاب‭ ‬الأولاد‭ ‬إنجاز‭ ‬ومفخرة‭ ‬له‭ ‬شخصياً،‭ ‬والأنكى‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬كثيرات‭ ‬من‭ ‬نسائنا‭ ‬أيضاً‭ ‬يفضلن‭ ‬إنجاب‭ ‬الأولاد‭ ‬على‭ ‬إنجاب‭ ‬البنات،‭ ‬ولكننا‭ ‬لم‭ ‬نعد‭ ‬نمارس‭ ‬وأد‭ ‬البنات‭ (‬إلا‭ ‬معنوياً‭). ‬وأذكر‭ ‬كيف‭ ‬كانت‭ ‬زوجتي‭ ‬تصلي‭ ‬ليل‭ ‬نهار‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مولودها‭ ‬البكر‭ ‬ولداً،‭ ‬واستجاب‭ ‬الله‭ ‬لدعائها،‭ ‬ولما‭ ‬حملت‭ ‬بالمولود‭ ‬الثاني‭ ‬تمنت‭ ‬أيضاً‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬ولداً،‭ ‬ولكن‭ ‬الله‭ ‬شاء‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬بنتاً‭ ‬ففرحت‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬منطلق‭ ‬أنها‭ ‬سلفاً‭ ‬لديها‭ (‬ولد‭)‬،‭ ‬وضايقني‭ ‬كثيراً‭ ‬تفضيلها‭ ‬الأولاد‭ ‬على‭ ‬البنات،‭ ‬ولكنها‭ ‬عللت‭ ‬ذلك‭ ‬بأن‭ ‬أمها‭ ‬لم‭ ‬تنجب‭ ‬ولدا،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬ليس‭ ‬لها‭ ‬أخ‭ ‬شقيق،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬تريد‭ ‬أولاداً‭ ‬يملأون‭ ‬الفراغ‭ ‬العاطفي‭ ‬الناجم‭ ‬عن‭ ‬كونها‭ ‬محرومة‭ ‬من‭ ‬الأشقاء‭ ‬الذكور‭. ‬وحملت‭ ‬بالمولود‭ ‬الثالث‭ ‬وعندما‭ ‬داهمها‭ ‬المخاض‭ ‬ذهبت‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬مستشفى‭ ‬الولادة،‭ ‬وكنا‭ ‬وقتها‭ ‬في‭ ‬أبوظبي،‭ ‬ونقلوها‭ ‬فوراً‭ ‬إلى‭ ‬غرفة‭ ‬التوليد،‭ ‬وسرت‭ ‬مع‭ ‬النقالة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬ممددة‭ ‬عليها‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬دخلت‭ ‬الغرفة‭ ‬وهممت‭ ‬بالخروج،‭ ‬ولكن‭ ‬الطبيبة‭ ‬الأجنبية‭ ‬أغلقت‭ ‬باب‭ ‬الغرفة‭ ‬بالمفتاح‭ ‬فنبهتها‭ ‬إلى‭ ‬أنني‭ ‬‮«‬ينبغي‮»‬‭ ‬أن‭ ‬أخرج‭ ‬فقالت‭ ‬لي‭ ‬بحزم‭: ‬نو‭ ‬واي‭.. ‬لا‭ ‬سبيل‭ ‬لذلك،‭ ‬ستبقى‭ ‬داخل‭ ‬غرفة‭ ‬الولادة،‭ ‬لأنك‭ ‬‮«‬طرف‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬العملية‮»‬‭! ‬يا‭ ‬بنت‭ ‬الناس‭ ‬عيب‭.. ‬أمي‭ ‬ستتبرأ‭ ‬مني‭ ‬إذا‭ ‬عرفت‭ ‬أنني‭ ‬بقيت‭ ‬داخل‭ ‬غرفة‭ ‬الولادة‭ ‬خلال‭ ‬قدوم‭ ‬مولودي‭ ‬الثالث‭! ‬لا‭ ‬يليق‭ ‬بجعفر‭ ‬حفيد‭ ‬عنتر‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬وضع‭ (‬بايخ‭) ‬كهذا‭! ‬ولكن‭ ‬لا‭ (‬حياء‭) ‬لمن‭ ‬تنادي‭! ‬تجاهلتني‭ ‬الطبيبة‭ ‬تماماً‭ ‬وتركتني‭ ‬أحدق‭ ‬في‭ ‬جدران‭ ‬الغرفة‭ ‬وأنا‭ ‬أتصبب‭ ‬عرقاً،‭ ‬ثم‭ ‬طلبت‭ ‬مني‭ ‬أن‭ ‬أجلس‭ ‬قرب‭ ‬زوجتي‭ ‬وأقول‭ ‬لها‭ ‬كلمات‭ (‬تشجيع‭).. ‬يا‭ ‬ستي‭ ‬والله‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬حتى‭ ‬التشجيع‭ ‬في‭ ‬مباريات‭ ‬كرة‭ ‬القدم‭ ‬فكيف‭ ‬أشجع‭ ‬امرأة‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬المخاض؟‭ ‬كانت‭ ‬تجربة‭ ‬فظيعة‭.. ‬حسبت‭ ‬أن‭ ‬زوجتي‭ ‬ستموت‭ ‬ونسيت‭ ‬حكاية‭ ‬حفيد‭ ‬عنتر‭ ‬و‭(‬العيب‭) ‬وجلست‭ ‬ممسكاً‭ ‬بيد‭ ‬زوجتي‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬سمعت‭ ‬صرخة‭.. ‬كانت‭ ‬بنتاً‭.. ‬وفي‭ ‬لحظات‭ ‬كانت‭ ‬تعابير‭ ‬السعادة‭ ‬قد‭ ‬حلت‭ ‬محل‭ ‬تعابير‭ ‬الألم‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬زوجتي،‭ ‬وحملتُ‭ ‬ابنتي‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬حجم‭ ‬الفأر‭ ‬الحضري‭ ‬وبكيت‭ ‬فرحاً‭ ‬بها‭ ‬ولأنني‭ ‬سعدت‭ ‬بنهاية‭ ‬معاناة‭ ‬زوجتي‭.. ‬ويومها‭ ‬أدركت‭ ‬معنى‭ ‬الأمومة،‭ ‬وكيف‭ ‬وهب‭ ‬الله‭ ‬النساء‭ ‬فيضاً‭ ‬من‭ ‬الطاقة‭ ‬الجسدية‭ ‬والعاطفية‭ ‬لا‭ ‬يملكها‭ ‬الرجل،‭ ‬وكيف‭ ‬إن‭ ‬المرأة‭ ‬تدرك‭ ‬حجم‭ ‬المعاناة‭ ‬خلال‭ ‬الحمل‭ ‬ثم‭ ‬الإنجاب،‭ ‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬تكرر‭ ‬‮«‬التجربة‮»‬،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فإنني‭ ‬أزدري‭ ‬كل‭ ‬من‭ (‬يستعر‭) ‬من‭ ‬بنات‭ ‬عائلته‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا