القراء الأعزاء،
لحقوق الإنسان الثقافية مفاهيم متعددة، تنبثق من المفهوم الشاسع للثقافة والذي يتّسع ليشمل (الالمام بالفنون والانسانيات والعلوم والتكنولوجيا وكل جديد على كل صعيد، وقد تعني سلوك الانسان في التفكير والكلام والفعل والمهارات والإنتاج بشكل عام، كما تشمل قدرة الانسان على التعلم والتأقلم ونقل وتوريث المعرفة للأجيال اللاحقة، وقد تعني أيضا منظومة المعتقدات والقيم والعادات والتقاليد، إلى جانب الخصائص المادية للجماعات العرقية أو الطائفية أو الاجتماعية).
وتتمتع جميع عناصر الثقافة بذات الأهمية، ويفوقها -من وجهة نظري- عنصر الموروث الشعبي التراثي المادي وغير المادي، الذي يُشكّل جانبا من هويّة الجماعات الثقافية ويمنحها خصوصيتها التي تميّزها عن سواها، لذا نجد أن الدول تجتهد في الاشتغال على حفظ موروثها الشعبي ولا سيما غير المادي منه لأنه العنصر الأكثر قابلية للاندثار باعتباره محفوظاً في الذاكرة البشرية المعرضة للنسيان والمحو برحيل حفظته، بجانب تأثير تغير الزمن والناس على تغيير وتحريف نسخته الأصلية بالنقل غير الصحيح أو الناقص أو الزائد، وبالتالي تزداد ضرورة الاشتغال على الحفاظ على الموروث الشعبي في المرحلة المعاصرة نظراً إلى طبيعة هذه المرحلة التي تمضي تحت شعار (العالم قرية كبيرة) حتى نزعت من الأشياء والأماكن خصوصيتها وطعمها ورائحتها فأصبحت متشابهة إلى حد كبير.
والحقيقة أن هذه المرحلة كفيلة بخلط الكثير من المفاهيم وتجريدها من معانيها الأصلية ومن خصوصيتها، لذا فإن الحظيظ هو الذي يستطيع الموازنة بين مواكبتها والحفاظ على هويته في آن واحد، مع الإصرار على الأخيرة لأنها جزء من كيانه.
ومن موروثنا الشعبي المهم تراثنا الشفاهي (الحكائي) كالحكايات الشعبية، الأمثال الشعبية، الالغاز والأشعار، والتي تكمن أهميتها في كونها قد تخلّقت نتاجاً لتراكم خبرات طويلة وتلاقح ثقافات عبر العصور المختلفة لتصل إلينا وتنتقل إلى من سيأتي بعدنا.
وتعيدني الكتابة عن الموروث الشعبي إلى الحزاوي (الحكايات الشعبية)، فقد كانت والدتي مريم بنت يوسف الكواري من سيدات البحرين اللاتي يمتلكن ذاكرةً ومخزوناً ثريّاً من الحزاوي، وكانت تعشق رواية القصص، وقد اجتهدت في هذا المجال ولم تبخل بمخزونها القصصي الشعبي، في تزويد بعض الكتاب المتخصصين في هذا الشأن والمعروفين على الساحة الأدبية، كما أنها أسهمت بشكل فاعل في المسح الميداني الذي أجراه مركز التراث الشعبي لدول الخليج العربية في أواسط ثمانينيات القرن الماضي، فقامت بتسجيل هذه القصص على شرائط (كاسيتات) لمندوبة المركز التي زارتها في المنزل، كما قامت بتسجيل أخرى لاحقة لوزارة الثقافة في أواخر ذلك العقد الزمني، وفي الأعوام الأخيرة من عمرها القصير، قامت بتدوين جميع القصص التي استحضرتها ذاكرتها على الورق وقامت بتسليمها إلى ابن أختها المبدع أحمد يعقوب المقلة، وطلبت منه أن يعرضها على الشاعر علي الشرقاوي لعمل سيناريو تمهيداً لتصويرها تلفزيونيا.
والأمر المستجد في مسيرة الحفاظ على الموروث الشعبي والذي يستحق الوقوف عنده هو إصدار المبدعة البحرينية هاجر ناصر الفضالة المعنون (أمثال بحرينية بخربشات كارتونية)، والحقيقة أن الكتاب جميل بكل مضامينه، فقد تناول الأمثال الشعبية البحرينية، والأصل أن تدوين الأمثال ليس بفكرة مسبوقة ولكن الابداع يتمثل في إيجاد منافذ جديدة للولوج إلى الأفكار المطروقة، حيث يكمن إبداع الكاتبة في أسلوب إعادة توثيق هذه الأمثال بطريقة مبتكرة غير مسبوقة، وقد أسهمت مهارات الكاتبة وتمكّنها من فن الرسم الكارتوني في جعل الكتاب جميلاً شكلاً ومضموناً، إذ تمثّلت كل مثل من الأمثال الشعبية بالرسم الكارتوني وبالشرح كتابة فجمعت بين الصورة والكتابة، وأضفت على إصدارها متعة فكرية وبصرية لجميع الفئات العمرية ولا سيما للأطفال، الذين أعتقد أنهم الفئة الأصلية المستهدفة به، لبلوغ الهدف الأسمى من مثل هذه الإصدارات، وهو الحفاظ على الموروث الشعبي ونقله إلى الأجيال.. فشكرا.. ومبروك للمبدعة هاجر على هذا الإصدار المميز.
والأكيد أن البحرين ولاّدة للإبداع والمبدعين، وأن قلوب أبنائها المبدعين سياج حصين يحفظها ويحميها و(يشيلها بالورد ويحطها بالياسمين)، وأختم بتوجيه رسالة إلى أصحاب القرار بأن كل ما نأمله هو احتواء المبدعين والمبدعات في شتى المجالات الانسانية، وتفعيل فكرة تفريغ المبدع للعمل الإبداعي حتى يكون هو شغله الشاغل، حتى لا يضيع الإبداع في رحلة ركض المبدع وراء كسب معيشته.
Hanadi_aljowder@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك