زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
كفّوا عن الغطرسة
أسرني وشد انتباهي كلام قاله شيخ ما في برنامج تليفزيوني (نسيت اسمه ليس بسبب الزهايمر وحده!! ولكن لأنني لا أتابع القنوات الفضائية العربية عادة، وكان ما سمعته من ذلك الشيخ مصادفة وأنا أحاول البحث عن قنوات بنت ناس)، المهم أن الشيخ تناول الطريقة المثلى للتعامل بين الطبيب ومرضاه، وكان كل تركيزه على الواجبات المهنية والأخلاقية الملقاة على عاتق الطبيب، ولكن استوقفني على نحو خاص قوله للأطباء: لا تتعالوا على المرضى، بل عاملوهم كبشر في لحظة ضعف، على نحو لائق ليحسوا بأنهم أناس جديرون بالتقدير والرعاية حتى لو كانوا في قاع السلم الاجتماعي، واستشهد الشيخ في هذا الصدد بقوله تعالى: (ولا تصعر خدك للناس)، وأضاف شيخنا ما معناه: قرأت نصائح لقمان لولده عشرات بل مئات المرات، ولكن ورود «لا تصعر..» في ذلك السياق كان بمثابة العدسة الطبية الجديدة التي تجعل النظر أكثر حدة.
هذه يا قرائي الكرام وقارئاتي الكريمات قمة البلاغة في التبليغ. ومثل هذا الكلام هو الذي يجعل الإعلام يستحق ذلك المسمى، لأن الإعلام هو التبليغ والتنوير بهدف توصيل الحقيقة، وتذكر أيها القارئ كم من مسؤول دخلت مكتبه وأبى أن يتصدق عليك بنظرة، وتشاغل بتقليب أوراق تتعلق بملابسات انهيار سد مأرب. وتذكر رئيسك في العمل الذي تراه مصادفة مرة كل أربعة أشهر ولا يتفضل بإلقاء نظرة عابرة عليك، بل ولا يكلف نفسه أن يرد التحية التي تلقيها عليه. والطبيب الذي جلست أمامه وخاطبك بقوله: نعم دون أن يرفع نظره إليك، وما أن تبدأ بشرح علتك حتى يقاطعك: أوكي.. ويشرع في كتابة الوصفة الطبية. وتكون في صالة الانتظار في عيادة ويدخل عليكم شخص حسن الهندام ينظر إليكم بطرف عينيه ثم يجلس بلا سلام أو كلام. وتدخل على مسؤول حكومي بعد أن تواضع وقبل أن يلقاك بعد توسلات دامت أربعة أشهر، وما أن تبدأ في الكلام حتى يرن هاتفه، ويؤشر لك بيده كي «تفِزْ»، أي يخرج لك الكارت الأحمر الافتراضي كي تغادر مكتبه، فتعود أدراجك لأنك تعرف أنك لن تستطيع مقابلة «سعادته» حتى يشيب الغراب، وهناك الزوج الذي كلما كلمته زوجته في أمر ما نظر إلى السقف أو إلى حذائه، وفي أغلب الأوقات إلى تلفونه عامداً لتفهم أن كلامها لا يعنيه في كثير أو قليل.
هذه كلها أمثلة لتصعير الخد والغطرسة والعنطزة والتعالي، وفي التحليل الأخير فكلها دليل مرض نفسي وعقد نفسية، فالشخص الواثق من نفسه ومن أهليته لمركزه الوظيفي أو الاجتماعي ليس في حاجة إلى الجلافة كي يُشعِر الآخرين بأنه مميز. خلال عملي في شركة كبرى كان هناك عامل نظافة آسيوي بسيط مكلف بغسل المراحيض والسلالم «الدرج» وكان عمله يبدأ في الحادية عشرة ليلاً وينتهي في الرابعة فجرا، ولأن راتبه كان بسيطاً ولأنه كان شخصاً خلوقاً ولطيفاً ومهذباً فقد اتفق بعضنا على تكليفه بغسل سياراتنا نظير أجر معلوم وكنا نكلفه بمشاوير بسيطة نعطيه مقابلها ما تيسر من مال، ولكن الخدمات التي كان يقدمها لنا كانت من حيث «القيمة» أضعاف النقود التي يتقاضاها منا. وكنا بالطبع كلما التقينا به بادلناه الحديث والدعابات خاصة فيما يتعلق بضرورة أن يجد لنفسه زوجة فكان يقول: ومن سترضى بالزواج من شخص مهمته تنظيف دورات المياه! وذات يوم استوقفني المدير الذي يتبع له ذلك العامل البسيط وقال لي ما معناه: لماذا ترفعون «التكليف» مع العمال وتسمحون لهم بدخول مكاتبكم والجلوس فيها لمبادلتكم الحديث.. فقلت له ما معناه: إن خمس دقائق أتبادل فيها الحديث مع عامل دورات المياه ذاك أخف على قلبي من الجلوس خمس ثوان مع أناس نفوسهم ملوثة مثل دورات المياه. ثم أضفت: هل كان يرضيك أن رئيسك كان يرفض استقبالك عندما بدأت العمل في الشركة كموظف كاونتر بأجر يومي؟ قصدت من ذلك أن أذكره بأنه كان يوماً ما موظفاً بسيطاً ثم ارتفع وظيفياً، وبأن من تواضع لله رفعه.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك