العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

عن التباهي بالتوافه

في‭ ‬السودان‭ ‬يوصف‭ ‬الشاب‭ ‬أو‭ ‬الشابة‭ ‬بالتحنكش‭ ‬ويقال‭ ‬فلان‭ ‬حنكوش‭ (‬بينما‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬الخليج‭ ‬شنكحة‭)‬،‭ ‬عندما‭ ‬يكون‭ ‬شديد‭ ‬الاهتمام‭ ‬بمظهره‭ ‬لدرجة‭ ‬أنه‭ ‬يكاد‭ ‬يقول‭ ‬لك‭: ‬توقف‭ ‬وانظر‭ ‬إلى‭ ‬هيئتي‭ ‬وهندامي،‭ ‬والتشنكح‭ ‬أو‭ ‬التحنكش‭ ‬يقترن‭ ‬عادة‭ ‬ببعض‭ ‬الميوعة‭ ‬والدلال‭ ‬السلوكي،‭ ‬ولكنه‭ ‬قد‭ ‬يتجلى‭ ‬أيضا‭ ‬في‭ ‬استخدام‭ ‬المفردات‭ ‬وطريقة‭ ‬الكلام‭ ‬‮«‬أففف‭ ‬سلوك‭ ‬بلدي‭.. ‬إخخخ‭ ‬من‭ ‬الأكلات‭ ‬الشعبية‭.. ‬ما‭ ‬اشربش‭ ‬الشاي‭ ‬اشرب‭ ‬كازوزة‭ ‬أنا‮»‬‭. ‬

زرت‭ ‬عشرات‭ ‬المرات‭ ‬بلادا‭ ‬لا‭ ‬يعتبر‭ ‬فيها‭ ‬السفور‭ ‬حتى‭ ‬حد‭ ‬نصف‭ ‬التعري‭ ‬فجوراً‭ ‬وخروجاً‭ ‬على‭ ‬التقاليد،‭ ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬يلفت‭ ‬نظري‭ ‬ونظر‭ ‬غيري‭ ‬ممن‭ ‬يزورون‭ ‬الدول‭ ‬الأوروبية‭ ‬هو‭ ‬أنك‭ ‬تلتقي‭ ‬بعشرات‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬النساء‭ ‬في‭ ‬الشوارع‭ ‬ولا‭ ‬ترى‭ ‬في‭ ‬وجوه‭ ‬إلا‭ ‬قلة‭ ‬قليلة‭ ‬منهن‭ ‬أثراً‭ ‬للمكياج،‭ ‬والأحمر‭ ‬والأصفر‭ ‬الذي‭ ‬يعلو‭ ‬وجوه‭ ‬البنات‭ ‬في‭ ‬بلداننا،‭ ‬فحتى‭ ‬عند‭ ‬الذهاب‭ ‬إلى‭ ‬بيت‭ ‬‮«‬العمة‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يبعد‭ ‬عن‭ ‬بيوتهن‭ ‬سوى‭ ‬نحو‭ ‬ثلاثين‭ ‬مترا‭ ‬فإن‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الفتيات‭ ‬عندنا‭ ‬يحرصن‭ ‬على‭ ‬التسلح‭ ‬بكامل‭ ‬زينتهن،‭ ‬وتجد‭ ‬الأم‭ ‬تتفقد‭ ‬بنتها‭ ‬الخارجة‭ ‬من‭ ‬البيت‭ ‬من‭ ‬فوق‭ ‬إلى‭ ‬تحت‭ ‬للتأكد‭ ‬من‭ ‬أنها‭ ‬لبست‭ ‬سوار‭ ‬الذهب‭ ‬الجديد،‭ ‬والحذاء‭ ‬الذي‭ ‬اشترته‭ ‬قبل‭ ‬شهرين‭ ‬بمناسبة‭ ‬زواج‭ ‬فطومة‭. ‬وتجد‭ ‬واحدة‭ ‬تمضي‭ ‬ساعتين‭ ‬عند‭ ‬الصباح‭ ‬وهي‭ ‬تعمل‭ ‬كط‭ ‬آند‭ ‬بيست‭ ‬في‭ ‬وجهها،‭ ‬وتقف‭ ‬لنصف‭ ‬ساعة‭ ‬حائرة‭ ‬أمام‭ ‬خزانة‭ ‬ملابسها،‭ ‬فتسألها‭ ‬ما‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬مناسبة‭ ‬اجتماعية‭ ‬صباحية،‭ ‬فترد‭ ‬قائلة‭ ‬إن‭ ‬لديها‭ ‬موعد‭ ‬مع‭ ‬الطبيب،‭ ‬وإذا‭ ‬استنكرت‭ ‬أن‭ ‬تتهندم‭ ‬وتتأنق‭ ‬لـ«الطبيب‮»‬،‭ ‬صاحت‭ ‬في‭ ‬استنكار‭ ‬إنها‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تذهب‭ ‬مبهدلة‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬مكان‭ ‬يمكن‭ ‬ان‭ ‬تلاقي‭ ‬فيه‭ ‬بعض‭ ‬معارفها‭ ‬‮«‬خوفا‭ ‬من‭ ‬شماتة‭ ‬أبله‭ ‬ظاظا‮»‬‭.‬

والسبب‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬أننا‭ ‬نعتبر‭ ‬أنفسنا‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬سباق‭ ‬أو‭ ‬مسابقة‭ ‬مع‭ ‬العائلات‭ ‬الأخرى‭: ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬نثبت‭ ‬لهم‭ ‬أننا‭ ‬لسنا‭ ‬أقل‭ ‬منهم‭ ‬في‭ ‬اللبس‭ ‬والزينة‭ ‬والأثاث‭. ‬وماذا‭ ‬سيقول‭ ‬الناس‭ ‬عنا‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬نجدد‭ ‬الأثاث‭ ‬والمفارش‭ ‬بمناسبة‭ ‬قدوم‭ ‬المولود‭ ‬الجديد؟‭  ‬لا‭ ‬يهم‭ ‬أن‭ ‬المولود‭ ‬سيحل‭ ‬في‭ ‬الدنيا‭ ‬مثقلا‭ ‬بنصيب‭ ‬من‭ ‬ديون‭ ‬والديه،‭ ‬بل‭ ‬المهم‭ ‬أن‭ ‬يراه‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬سرير‭ ‬‮«‬أبهة‮»‬‭ ‬وحوله‭ ‬الخز‭ ‬والمخمل‭ ‬والحرير‭. ‬ولو‭ ‬وجدت‭ ‬بعض‭ ‬العائلات‭ ‬بامبرز‭ ‬مطرزا‭ ‬بخيوط‭ ‬من‭ ‬الذهب‭ ‬لما‭ ‬ترددن‭ ‬في‭ ‬شرائه‭ ‬ليتسنى‭ ‬لهن‭ ‬القول‭ ‬للخادمات‭: ‬خذي‭ ‬قطع‭ ‬البامبرز‭ ‬الأربعة‭ ‬المستعملة‭ ‬واعطيها‭ ‬للجيران‭.  ‬مساكين‭ ‬فقراء‭ ‬مازالوا‭ ‬يستخدمون‭ ‬البامبرز‭ ‬المحشو‭ ‬بالقطن‭ ‬والورق‭ ‬المضغوط‭. ‬وإذا‭ ‬سافر‭ ‬عيال‭ ‬عيسى‭ ‬إلى‭ ‬دبي‭ ‬فإن‭ ‬زوجة‭ ‬موسى‭ ‬تصر‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تسافر‭ ‬وعيالها‭ ‬إلى‭ ‬سوريا‭ ‬ولو‭ ‬إلى‭ ‬منطقة‭ ‬تسيطر‭ ‬عليها‭ ‬داعش‭. ‬وإذا‭ ‬سافرت‭ ‬أسرة‭ ‬هاشم‭ ‬إلى‭ ‬قبرص‭ ‬فلابد‭ ‬أن‭ ‬تسافر‭ ‬عائلة‭ ‬أبو‭ ‬ابراهيم‭ ‬إلى‭ ‬جزيرة‭ ‬أفخم‭ ‬‭ ‬هاواي‭ ‬مثلا‭. ‬أما‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬وجهة‭ ‬أبو‭ ‬سامر‭ ‬هي‭ ‬السويد،‭ ‬فإن‭ ‬أبو‭ ‬صجمة‭ ‬يجد‭ ‬نفسه‭ ‬ملزماً‭ ‬بالسفر‭ ‬مع‭ ‬عياله‭ ‬إلى‭ ‬القطب‭ ‬الشمالي‭. ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬رشيد‭ ‬نجل‭ ‬عمو‭ ‬خضر‭ ‬متفوقاً‭ ‬فإن‭ ‬زوجة‭ ‬أخيه‭ ‬تزعم‭ ‬أن‭ ‬ولدها‭ ‬رسب‭ ‬في‭ ‬خمس‭ ‬مواد‭ ‬لأن‭ ‬المدرس‭ ‬‮«‬مضاديه‮»‬‭ ‬أي‭ ‬يضمر‭ ‬له‭ ‬عداوة‭ ‬وتقول‭ ‬لها‭ ‬إن‭ ‬الولد‭ ‬رسب‭ ‬في‭ ‬الكيمياء‭ ‬والجغرافيا‭ ‬والرياضيات‭ ‬واللغة‭ ‬الانجليزية‭ ‬والعلوم‭ ‬الدينية،‭ ‬ولكل‭ ‬منها‭ ‬مدرس‭ ‬منفصل‭ ‬فتقول‭ ‬لك‭ ‬أن‭ ‬مرشد‭/ ‬مربي‭ ‬الصف‭ ‬الذي‭ ‬يدرس‭ ‬فيه‭ ‬ولدها‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يخصم‭ ‬منه‭ ‬الدرجات‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬المواد،‭ ‬ثم‭ ‬تضيف‭ ‬أن‭ ‬رشيد‭ ‬تفوق‭ ‬لأن‭ ‬أباه‭ ‬‮«‬صاحب‭ ‬مدير‭ ‬المدرسة‮»‬‭.‬

نحن‭ ‬لا‭ ‬نفكر‭ ‬في‭ ‬علاج‭ ‬النواقص‭ ‬في‭ ‬أنفسنا‭ ‬وعيالنا‭ ‬بل‭ ‬نمكيجها‭ ‬بالمساحيق‭ ‬الاجتماعية‭ ‬وهذا‭ ‬كأن‭ ‬تعالج‭ ‬السرطان‭ ‬بالبندول‭. ‬جوانب‭ ‬كثيرة‭ ‬في‭ ‬حياتنا‭ ‬محكومة‭ ‬بقوانين‭ ‬التباهي‭ ‬والحط‭ ‬من‭ ‬قدر‭ ‬الآخرين‭ ‬بالمقاييس‭ ‬المادية‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬تجد‭ ‬عندنا‭ ‬من‭ ‬يعايرك‭ ‬بفقرك‭ ‬أو‭ ‬محدودية‭ ‬دخلك‭. ‬ذات‭ ‬مرة‭ ‬أوقفت‭ ‬سيارتي‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬ظليل‭ ‬في‭ ‬مستشفى‭ ‬فجاءني‭ ‬شاب‭ ‬منفوش‭ ‬كان‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يسبقني‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬المكان‭ ‬وقال‭ ‬لي‭: ‬أوقف‭ ‬سيارتك‭ ‬المبهدلة‭ ‬هذه‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬مكشوف‭ ‬ما‭ ‬يصير‭ ‬لها‭ ‬شيء،‭ ‬فقلت‭ ‬له‭ ‬سيارتي‭ ‬مبهدلة‭ ‬ولكنني‭ ‬محترم،‭ ‬وسيارتك‭ ‬محترمة‭ ‬وأنت‭ ‬لست‭ ‬كذلك‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا