هوامش
عبدالله الأيوبي
ayoobi99@gmail.com
تسييس القضاء تشويه للعدالة
بغض النظر عن التبرير «القانوني» الذي ساقته المحكمة الجنائية الدولية فيما يتعلق بإصدارها مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومحاولة ممثلي المحكمة إبعاد الصفة السياسية عن هذا القرار، فإن هذا الموقف لم يقنع سوى أولئك الذين هم الآن في صراع سياسي غير مسبوق مع روسيا الاتحادية، الذين رحبوا بهذا القرار واعتبروه مكسبا «قانونيا»، ومنهم بالدرجة الأولى الولايات المتحدة الأمريكية التي اعتبرت القرار «مبررا»، مع أن واشنطن لا تعترف بهذه المحكمة، بل وذهبت إلى فرض عقوبات عليها خلال ولاية الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بحجة معاداة السامية، بعد أن خرجت أصوات من المحكمة تطالب بمحاسبة مسؤولين «إسرائيليين» بسبب ارتكابهم جرائم حرب ضد الفلسطينيين.
تنفيذ قرار المحكمة يحتاج إلى ما يشبه المعجزة، فالرئيس الروسي بكل تأكيد لن يسافر إلى أي من الدول الأطراف في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية، وروسيا أساسا ليست من بين هذه الدول، أضف إلى ذلك فإن كثيرا من الدول، باستثناء تلك التي في صراع حاد الآن مع روسيا، ترى أن رائحة التسييس تفوح من قرار المحكمة الجنائية الدولية، خاصة وأن هذه المحكمة لم تحرك ساكنا تجاه قادة ومسؤولين ارتكبوا من الجرائم بحق الإنسانية ما لا يمكن تخيلها وما نجم عنها من مآس وفظائع، ومع ذلك لم نسمع عن مثول أي من هؤلاء أمام قضاة المحكمة.
نائب رئيس شرطة دبي ضاحي خلفان في تغريدات نشرها على حسابه على موقع التواصل الاجتماعي تويتر قال: «المحكمة الجنائية الدولية وين مذكراتها عن مجرمي الحرب في العراق»؟، مضيفا «عندما تسيس المحاكم لا يبقى لمذكراتها أي معنى، «بوش الابن قتل ملايين العراقيين الأبرياء.. وخرج بطلا.. والمحكمة الجنائية الدولية كانت تغط في نوم عميق»، فالرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن ورئيس وزراء بريطانيا السابق توني بلير، نفذا جريمة غزو مبنية على أكاذيب مفبركة نجم عنها إزهاق أرواح وإصابات وإعاقات مستدامة لملايين العراقيين من كل الأعمار، بما في ذلك الأطفال، وهي الفئة التي اتخذت منها المحكمة الجنائية الدولية مبررا «قانونيا» لإصدار مذكرة اعتقال الرئيس الروسي.
فالمحكمة الجنائية الدولية بخضوعها للإملاءات السياسية، إنما هي تضعف من هيبتها وسمعتها، ومصداقيتها لدى الضحايا من مختلف شعوب العالم الذين دفعوا أثمانا باهظة جراء جرائم ارتكبها قادة ومسؤولون من دون أن يتعرضوا لأي شكل من أشكال المساءلة أو المحاسبة القانونية، فإذا كان لدى المحكمة ما يكفي من أدلة أو حتى قرائن استندت إليها في قرار اعتقال الرئيس الروسي، فإن هناك ما يكفي وأكثر من أدلة على من ارتكب جريمة غزو العراق من دون أي مسوغ قانوني أو قرار أممي يشرع مثل هذا العمل، ومع ذلك فإن المحكمة كما قال ضاحي خلفان «تغط في نوم عميق».
ليس دفاعا عن الرئيس الروسي، فيما يتعلق بنقل أطفال دونباس إلى مدن ومناطق في روسيا، حيث تقول الأخيرة أنها نقلت هؤلاء لحمايتهم بعيدا عن مدن ومناطق تشهد عمليات عسكرية تهدد حياتهم، وهذا ما لم تتحقق منه المحكمة، خاصة وأن هذا السبب، إن كان صحيحا، وهو أقرب إلى ذلك، يصب في مصلحة هذه الفئة، هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإن أيَّ شكل من أشكال الانتقائية القانونية إنما هو تشويه خطير لوجه العدالة وإساءة أيضا لأرواح الضحايا الذين لا صوت لهم ولم تخرج المحكمة الجنائية الدولية للدفاع عنهم وإنصافهم، وهم في أمس الحاجة إلى مثل هذا الدعم والمساندة.
فتسييس القضاء هو أمر خطير جدا، خاصة عندما تفوح رائحة هذا التسييس من رحم قرارات تصدر عن هيئة قضائية دولية، يفترض أن تكون بوصلة البحث عن العدالة، أيا يكون الجاني أو المتهم، هي البوصلة التي تسترشد بها هذه الهيئة القضائية الدولية، والتي يجب أن تكون مواقفها على مسافة واحدة من جميع الضحايا ومن جميع مرتكبي الجرائم، من دون النظر إلى قدرات وقوة بلدانهم العسكرية والاقتصادية، لكن هذه السمات والصفات التي يجب أن تكون مبادئ ثابتة في عمل وتوجهات هذه المحكمة، يبدو أنها انتقائية، كما اتضح من القرار الأخير وصمت المحكمة تجاه جرائم قادة جريمة غزو العراق وتدمير ليبيا وأفغانستان والقائمة طويلة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك