العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

وصرت أنيقا إلى حد ما

تناولت‭ ‬بالأمس‭ ‬جانبا‭ ‬من‭ ‬ذكريات‭ ‬طفولتي‭ ‬وصباي‭ (‬وليس‭ ‬شبابي‭ ‬لأنني‭ ‬والحمد‭ ‬لله‭ ‬في‭ ‬ريعان‭ ‬الشباب‭ ‬مع‭ ‬أنني‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬المعنى‭ ‬الدقيق‭ ‬لكلمة‭ ‬‮«‬ريعان‮»‬‭ ‬لكن‭ ‬أهه‭ ‬أتكلم‭ ‬وأكتب‭ ‬بما‭ ‬وكما‭ ‬سمعت‭ ‬وقرأت‭)‬،‭ ‬وسأواصل‭ ‬اجترار‭ ‬تلك‭ ‬الذكريات‭ ‬لأستخلص‭ ‬منها‭ ‬العظات‭ ‬والعبر‭ ‬وعلى‭ ‬أمل‭ ‬أن‭ ‬القارئ‭ ‬سيجد‭ ‬فيها‭ ‬أيضا‭ ‬درسا‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬أو‭ ‬آخر‭).‬

ولهذا‭ ‬اسمحوا‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أعود‭ ‬معكم‭ ‬وبكم‭ ‬إلى‭ ‬سني‭ ‬الدراسة‭ ‬الأولى‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬الزي‭ ‬المدرسي‭ ‬في‭ ‬المرحلتين‭ ‬الابتدائية‭ ‬والمتوسطة‭ ‬يتألف‭ ‬من‭ ‬الجلباب‭ (‬الجلابية‭) ‬وعمامة‭ ‬قصيرة‭ ‬لا‭ ‬يتعدى‭ ‬طولها‭ ‬المتر‭ ‬الواحد‭ (‬العمامة‭ ‬السودانية‭ ‬القياسية‭ ‬طولها‭ ‬5‭ ‬أمتار‭ ‬وهناك‭ ‬من‭ ‬يجعلونها‭ ‬عشرة‭ ‬أمتار،‭ ‬وشخص‭ ‬يحمل‭ ‬عبئاً‭ ‬كهذا‭ ‬على‭ ‬رأسه‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬يتحلى‭ ‬بقوة‭ ‬تحمَّل‭ ‬عالية‭).  ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الابتدائية‭ ‬كان‭ ‬معظمنا‭ ‬يملك‭ ‬جلبابا‭ ‬واحدا،‭ ‬ومن‭ ‬باب‭ ‬ترشيد‭ ‬الإنفاق‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يخضع‭ ‬للغسل‭ ‬إلا‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬الأسبوع،‭ ‬والمعروف‭ ‬أن‭ ‬غسل‭ ‬الملابس‭ ‬مرارا‭ ‬يعجل‭ ‬باهتراء‭ ‬نسيجها‭ ‬وخيوطها،‭ ‬وملابس‭ ‬تُغسل‭ ‬مرة‭ ‬واحدة‭ ‬في‭ ‬الأسبوع‭ ‬على‭ ‬أجسام‭  ‬تغتسل‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬الأسبوع‭ ‬في‭ ‬أفضل‭ ‬الأحوال،‭ ‬كانت‭ ‬بالضرورة‭ ‬مزارع‭ ‬لاحتضان‭ ‬وإنتاج‭ ‬القمل‭ ‬بكميات‭ ‬تجارية،‭ ‬ولكن‭ ‬التلاميذ‭ ‬كانوا‭ ‬يحرصون‭ ‬على‭ ‬المثول‭ ‬في‭ ‬الطابور‭ ‬الصباحي‭ ‬يوم‭ ‬السبت‭ ‬في‭ ‬مظهر‭ ‬جيد‭ ‬لأنهم‭ ‬كانوا‭ ‬يخضعون‭ ‬للتفتيش‭ ‬على‭ ‬أجسامهم‭ ‬للتأكد‭ ‬من‭ ‬نظافتها،‭ ‬وكان‭ ‬المدرسون‭ ‬يطالبوننا‭ ‬برفع‭ ‬جلابيبنا‭ ‬ليتقصوا‭ ‬حالة‭ ‬سراويلنا‭ ‬الداخلية،‭ ‬وعند‭ ‬صدور‭ ‬الأمر‭ ‬بـ«رفع‮»‬‭ ‬الجلابيب‭ ‬كان‭ ‬بعضنا‭ ‬يجهش‭ ‬بالبكاء‭ ‬لأنه‭ ‬نسي‭ ‬أن‭ ‬يرتدي‭ ‬سروالاً‭ ‬أو‭ ‬لا‭ ‬يملك‭ ‬سروالا‭ ‬أصلا،‭ ‬أو‭ ‬استيقظ‭ ‬صباحا‭ ‬ووجد‭ ‬سرواله‭ ‬الوحيد‭ ‬على‭ ‬الحبل‭ ‬مبتلا‭.‬

في‭ ‬المدرسة‭ ‬المتوسطة‭ ‬طرأ‭ ‬تحسن‭ ‬طفيف‭ ‬على‭ ‬مظهرنا،‭ ‬فلأننا‭ ‬كنا‭ ‬بعيدين‭ ‬عن‭ ‬‮«‬اللي‭ ‬خلفونا‮»‬،‭ ‬ونقيم‭ ‬في‭ ‬الأقسام‭ ‬الداخلية،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬‮«‬من‭ ‬خلفونا‮»‬‭ ‬يزودوننا‭ ‬بملابس‭ ‬احتياطية،‭ ‬وكان‭ ‬الزي‭ ‬المدرسي‭ ‬أيضاً‭ ‬الجلباب‭ ‬والعمامة‭ ‬القصيرة،‭ ‬وكان‭ ‬لبس‭ ‬البنطلونات‭ ‬والشورتات‭ ‬‮«‬عيباً‮»‬،‭ ‬وإلى‭ ‬عهد‭ ‬قريب‭ ‬كان‭ ‬القرويون‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬يعتبرون‭ ‬من‭ ‬يرتديها‭ ‬إما‭ ‬شاذا‭ ‬جنسيا،‭ ‬أو‭ ‬شبه‭ ‬منحرف،‭  ‬أما‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانوية‭ ‬فقد‭ ‬اضطررنا‭ ‬نحن‭ ‬القرويين‭ ‬من‭ ‬شمال‭ ‬السودان‭ ‬وأطراف‭ ‬البلاد‭ ‬الأخرى‭ ‬إلى‭ ‬ابتلاع‭ ‬كرامتنا‭ ‬وارتداء‭ ‬الشورت‭ ‬الذي‭ ‬يسمى‭ ‬في‭ ‬السودان‭ (‬الرداء‭)‬،‭ ‬ولأن‭ ‬أهل‭ ‬العاصمة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬المدرسة‭ ‬الثانوية‭ ‬قريبة‭ ‬جداً‭ ‬منها‭ ‬كانوا‭ ‬يرتدون‭ ‬مختلف‭ ‬الأزياء‭ ‬الإفرنجية‭ ‬فقد‭ ‬زالت‭ ‬عقدتنا‭ ‬وصرنا‭ ‬نجاريهم‭ ‬في‭ ‬القيافة‭ ‬والأناقة،‭ ‬وفي‭ ‬السنة‭ ‬الثانية‭ ‬من‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانوية‭ ‬حدثت‭ ‬لي‭ ‬طفرة‭ ‬مازالت‭ ‬تشكل‭ ‬معلماً‭ ‬بارزا‭ ‬في‭ ‬مسيرة‭ ‬حياتي،‭ (‬حدثتكم‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬عن‭ ‬الطفرات‭ ‬التي‭ ‬مررت‭ ‬بها‭ ‬ومنها‭ ‬امتلاك‭ ‬حمار‭ ‬كنت‭ ‬أذهب‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬المدرسة‭..  ‬ثم‭ ‬كيف‭ ‬فزت‭ ‬بعلبة‭ ‬كرز‭ ‬في‭ ‬مسابقة‭ ‬مدرسية،‭ ‬وقررت‭ ‬الاحتفاظ‭ ‬بها‭ ‬حتى‭ ‬يتسنى‭ ‬لي‭ ‬لقاء‭ ‬شقيقي‭ ‬الأكبر‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬المدينة،‭ ‬وعندما‭ ‬التقيت‭ ‬أخي‭ ‬بعد‭ ‬نحو‭ ‬عامين،‭ ‬وفتحنا‭ ‬العلبة‭ ‬ووجدناها‭ ‬ممتلئة‭ ‬بالديدان،‭ ‬بعد‭ ‬انتهاء‭ ‬صلاحيتها‭. ‬ثم‭ ‬استخدمت‭ ‬التلفون‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬الصف‭ ‬الثاني‭ ‬الثانوي‭).‬

الطفرة‭ ‬الأخيرة‭ ‬تمثلت‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬والدي‭ ‬اشترى‭ ‬لي‭ ‬بنطلوناً‭ ‬أصفر،‭ ‬وكنت‭ ‬أقضي‭ ‬وقتاً‭ ‬طويلاً‭ ‬في‭ ‬كيه‭ ‬بمكواة‭ ‬الفحم،‭ ‬ولازمني‭ ‬هذا‭ ‬البنطلون‭ ‬اليتيم‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬وقعت‭ ‬عليه‭ ‬جمرة‭ ‬صغيرة‭ ‬من‭ ‬المكواة‭ ‬وأحدثت‭ ‬فيه‭ ‬ثقباً‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬حساس،‭ ‬فكان‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬التخلص‭ ‬منه،‭ ‬حيث‭ ‬زودني‭ ‬أهلي‭ ‬بعدة‭ ‬بنطلونات‭ ‬ذات‭ ‬ألوان‭ ‬هادئة‭.‬

ولو‭ ‬تركت‭ ‬الأمر‭ ‬لأهلي‭ ‬وأنا‭ ‬على‭ ‬أعتاب‭ ‬المرحلة‭ ‬الجامعية‭ ‬لما‭ ‬زودوني‭ ‬بأكثر‭ ‬من‭ ‬بنطلون‭ ‬واحد،‭ ‬ولكنني‭ ‬عملت‭ ‬خلال‭ ‬العطلة‭ ‬الصيفية‭ ‬التي‭ ‬سبقت‭ ‬التحاقي‭ ‬بالجامعة‭ ‬بدكان‭ ‬يتبع‭ ‬لشركة‭ ‬باتا‭ ‬الشهيرة‭ ‬لصنع‭ ‬الأحذية‭ ‬واشتريت‭ ‬ملابس‭ ‬من‭ ‬حر‭ ‬مالي،‭ ‬وكنت‭ ‬سعيداً‭ ‬بالبونص‭ ‬الذي‭ ‬منحته‭ ‬لي‭ ‬الشركة‭ ‬وهو‭ ‬حذاء‭ ‬جلدي‭ ‬برباط‭ ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الأحذية‭ ‬يسمى‭ ‬وقتها‭ (‬جزمة‭ ‬قزاز‭) ‬لأن‭ ‬جلدها‭ ‬كان‭ ‬شديد‭ ‬اللمعان‭.‬

هل‭ ‬أتباهى‭ ‬بأنني‭ ‬كنت‭ ‬مبهدلاً؟‭ ‬لا‭ ‬أتباهى‭ ‬ولكنني‭ ‬لا‭ ‬أحس‭ ‬بالخجل‭ ‬لكوني‭ ‬كنت‭ ‬كذلك‭.  ‬وكلما‭ ‬فتحت‭ ‬دولاب‭ (‬خزانة‭ ‬ملابسي‭) ‬واحترت‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬قميص‭ ‬أرتدي‭ ‬صحت‭ ‬مبتسما‭: ‬الله‭ ‬يرحم‭. ‬كنا‭ ‬فين‭ ‬وبقينا‭ ‬فين‭!‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا