بعض الأمراض الناجمة عن تلوث البيئة بالمخلفات الصلبة أو الغازية أو السائلة لا تنكشف مباشرة على الإنسان، وإنما تكون الحياة الفطرية الحيوانية هي البوابة الأولى التي تلج منها، وتتراكم فيها مع الوقت، ومن ثم تنتقل إلى الإنسان عبر السلسلة الغذائية عندما يتغذى الإنسان على هذه الكائنات التي تحتوي على سموم المخلفات. فهذه الكائنات الحية تُعد المؤشر الحيوي الأول، وتعمل كجهاز إنذارٍ مبكر يكشف ظهور المرض في المستقبل، وهي بذلك تُحذر البشر من وقوع كارثة صحية ووباء ينتشر في كل مكان.
ففي الخمسينيات من القرن المنصرم، وبالتحديد في مدينة مِينمَاتَا اليابانية الواقعة على خليج مينماتا، ظهرت فجأة أعراض غريبة لا تفسير لها على القطط في تلك المدينة، فقد شاهد الناس هذه القطط وهي ترقص وتتحرك سريعا في محيط دائري حول نفسها، ثم ما تلبث أن تلقى حتفها وتسقط صريعة على الأرض. وهذه المشاهد المرعبة ملأت قلوب سكان المدينة بالفزع والخوف الشديدين، وألقت في نفوسهم القلق العصيب، وجعلتهم في حيرة عميقة من أمرهم، وثارت في صدورهم التساؤلات المريبة لتفسير هذه المشاهد التي نزلت على القطط في مدينتهم.
فهذه الصور الحية التي رآها الناس أمامهم كانت هي المشهد الأول من أكبر كارثة شهدتها اليابان، بل والعالم أجمع، والتي تداعياتها مازالت يعاني منها الشعب الياباني، وشعوب العالم على حدٍ سواء، حتى إن دول العالم برعاية من الأمم المتحدة اجتمعتْ مرات كثيرة لمناقشة هذه الكارثة، ومواجهة أسبابها ومصادرها، وكان آخرها الموافقة على معاهدة دولية تحت مسمى «معاهدة مينماتا». فهذه القطط التي لقت نحبها في منظر غريب ومهيب لم يشهده الإنسان من قبل، كانت تعاني من تشبع عنصر الزئبق الشديد السمية في جسمها بسبب أكلها للأسماك التي كانت ملوثة بالزئبق، وهذا الزئبق دخل مياه الخليج وتراكم يوما بعد يوم في الكائنات النباتية فالحيوانية، ثم الأسماك نتيجة لصرف أحد المصانع لمخلفاته السائلة الملوثة بالزئبق في البحيرة. وهذه الأسماك نفسها المسمومة كان قد تغذى عليها الآلاف من سكان المدينة، فنزل عليهم كلهم بعد فترة قليلة من مشهد القطط، مرض عضال فريد من نوعه أُطلق عليه «مرض مينماتا»، فكانت القطط هي المؤشر الحيوي الأول لهذه الكارثة البيئية الصحية، وأعطت إنذاراً مبكراً على وجود مرضٍ في مجتمع الإنسان.
وبعدها بسنوات قليلة، وبالتحديد في السبعينيات من القرن المنصرم، وبعد أن أفرط الإنسان في كل بقاع العالم في استخدام المبيد الحشري المشهور «دي دي تي»، بدأت الطيور المائية والجارحة بوضع بيضٍ هشٍ ينكسر بسهولة قبل أن يفقس، ما قد يؤدي على المدى البعيد إلى انقراض هذا النوع من الطيور. وكان السبب هو انتشار وتراكم المبيد الحشري في كل شرايين البيئة، ثم انتقاله إلى الحياة الفطرية بجميع أنواعها، وانعكس تفشي هذا المبيد السام على الطيور كمؤشر حيوي أولي وإنذار مبكر يفيد بوجود مرض ما في البيئة، ثم ظهر رويدا رويدا على الإنسان من خلال تفشي المبيد في كل عضو، بل وفي كل خلية من خلايا الإنسان، حتى وصل إلى حليب الأم، فنزلت على الإنسان أمراض مستعصية، كمرض السرطان.
واليوم نقف أمام مؤشر حيوي آخر يكشف عن احتمال وجود مرض جديد في بيئتنا، ويتمثل في إصابة بعض أنواع الطيور المائية (flesh-footed shearwaters) الموجودة في جزيرة «لورد هوي» الأسترالية (Lord Howe Island) من نوع (Ardenna carneipes) بمرضٍ جديد يكتشفه العلماء لأول مرة، ويسبب تليفا في مسالك ومجرى الجهاز الهضمي لهذه الطيور نتيجة أكلها مواد غذائية تحتوي على مخلفات البلاستيك المتناهية في الصغر، ولذلك أُطلق على هذا المرض «بلاستيك أوْسِيسْ» (plasticosis) أو مرض التليف البلاستيكي للطيور.
وهذا الاسم يُطلق على مجموعة من أمراض التليف (fibrotic diseases) التي تصيب أعضاء جسم الإنسان، سواء أكان التليف لأنسجة الجهاز التنفسي، أو الجهاز الهضمي أو غيرهما. ومن أمثلة أمراض التليف التي تصيب البشر، والمعروفة منذ عقود طويلة من الزمن هي داء الأسْبِسْتُوسِسْ (asbestosis) أو سرطان الرئة، وهو مرضْ تليفْ رئوي مزمن يحدث بسبب استنشاق ألياف الأسبستوس المعدنية الموجودة في الطبيعية، وقد يصيب هذا المرض أيضاً بتليف أنسجة المعدة والحنجرة. كذلك هناك السِلِيكُوسِسْ (Silicosis) وهو أيضاً يصيب الرئتين بالتندب والتليف عند استنشاق غبار السليكا البلورية (الرمل الدقيق جدا)، حيث يتجمع في مسالك ومجرى الجهاز التنفسي ويصل أخيراً إلى الرئتين، فيصيب الإنسان بسرطان نادر من نوعه في الرئة.
فالمرض الجديد الذي نسلط عليه الضوء اليوم ناجم عن التعرض للمخلفات الميكروبلاستيكية، أو النانوبلاستيكية المجهرية الحجم، واكتشفه العلماء من متحف التاريخ الطبيعي في بريطانيا، ونشروا نتائج الدراسة الميدانية في 15 مايو 2023 في مجلة «المواد الخطرة» (Journal of Hazardous Materials) تحت عنوان: «بلاستيك أُوسِيسْ: تشخيص المخلفات الميكروبلاستيكية الصغيرة والكبيرة التي لها علاقة بتليف أنسجة الطيور المائية».
وفي هذه الدراسة قام العلماء بجمع 21 من الطيور الميتة من الجزيرة الأسترالية في الفترة من 28 أبريل إلى 8 مايو 2021، وتم الكشف عن المخلفات البلاستيكية في أجزاء مختلفة من الجهاز الهضمي، والتعرف عن التندب الذي ظهر في الأنسجة والالتهابات الناجمة عنه، والتي أدت إلى تليف الأنسجة والخلايا بسبب وجود المخلفات البلاستيكية. وهذا التليف يضعف من فاعلية وقدرة الجهاز الهضمي في أداء وظيفته، ويجعله أكثر عرضة للعدوى من الطفيليات وغيرها، ما يؤدي إلى موتها. وجدير بالذكر أن العلماء أفادوا بأن هذه الطيور التي خضعت للدراسة والتحليل كانت ظاهرياً وسطحياً تبدو سليمة وفي صحة جيدة، كالذي يصاب بالورم السرطاني لفترة من الزمن، ولا يعلم عن وجوده داخل جسمه، إلا بعد أن يستفحل وينتشر في جميع الأعضاء.
فهذا المرض البلاستيكي الذي انكشف على الطيور ما هو إلا النذير الأول، ويعتبر أول مشهدٍ عقيم لمرضٍ قادم لا محالة لباقي أنواع الكائنات الفطرية، والذي قد ينتقل إلى الإنسان.
فهل سنأخذ هذا المؤشر الأولي بجدية فسنستعد من الآن للتخطيط لمواجهة هذا الوباء القادم من المخلفات البلاستيكية والوقاية منه قبل أن يتفاقم؟
bncftpw@batelco.com.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك