بعد أن خَفتْ الأضواء قليلا عن فيروس كورونا الذي شلَّ الحركة في الكرة الأرضية برمتها لأكثر من عامين طويلين، فجَّرت صحيفة «الوول ستريت جورنال» الأمريكية قنبلة جديدة في 26 فبراير، وألقتْ مرة ثانية بالأضواء والاهتمام على هذا المرض العقيم، وبالتحديد بالنسبة إلى منبع هذا الفيروس الغريب ومصدره ومسقط رأسه، وأين كانت نقطة البداية، أو نقطة الصفر وانطلاق المرض وانتشاره.
كما أن هذا التفجير المعلوماتي الجديد أيقظ مرة ثانية المعركة الدبلوماسية التي كانت نائمة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، وأشعل من جديد الحرب الكلامية بين الطرفين وتوجيه الاتهامات فيما بينهما. وفي الوقت نفسه أحيا هذا التفجير الإعلامي الحوارات المحتدمة التي كانت تدور بين العلماء والمختصين ورجال السياسة حول منبع الفيروس ومصدر المرض من جهة، ومكان انتشاره من جهة أخرى.
فهذا الصراع العلمي السياسي نشب اليوم عندما نَشرت أولا جريدة «الوول ستريت جورنال» (Wall Street Journal) ثم النيويورك تايمز وصحف أخرى خبراً نَقلا عن تقييمٍ سري وتقرير جديد لوزارة الطاقة، التي تقع تحت إشرافها شبكة من المختبرات الاتحادية السرية وغير السرية، والذي تم تقديمه إلى البيت الأبيض وبعض أعضاء الكونجرس. وأهم النقاط الجديدة التي وردت في التقرير هي تغيير رأي وموقف وزارة الطاقة وبعض الأجهزة الاستخباراتية الأخرى حول مصدر فيروس كورونا(SARS-CoV-2) الذي أصاب عشرات الملايين من البشر بمرض كوفيد_19 (COVID-19).
فالنظرية الجديدة التي طُرحتْ «بثقة ضعيفة»، أو «ثقة منخفضة» من قبل وزارة الطاقة هي أنه على الأرجح بأن مصدر الفيروس هو التسرب الذي حَدَثَ عرضيا وعن طريق الخطأ من المختبر في معهد ووهان لعلم الفيروسات في مدينة ووهان الصينية، وقد ساند هذا الرأي عدة أجهزة أمنية واستخباراتية، وليس كلها، وفي مقدمتها «مكتب التحقيقات الفيدرالي» (إف بي أي)، حيث استنتج وبثقة «معتدلة» (moderate confidence) بأن المصدر الأرجح لمسقط رأس الفيروس هو المختبر الصيني، وأنه انتقل إلى جسم الإنسان عن طريق تسرب عرضي. وقد أكد هذا الاستنتاج مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي، كريستوفر راي (Christopher Wray) في 28 فبراير عندما قال إنه من الأرجح أن المرض بدأ من مختبر ووهان، وأنه بسبب تسرب غير متعمد عن طريق الخطأ، علماً بأن المكتب نفسه وصل إلى النتيجة ذاتها وبدرجة ضعيفة من الثقة في عام 2021.
فالتطور الجديد الآن هو التحول في رأي بعض الوزارات والأجهزة الاستخباراتية الأمنية في الولايات المتحدة الأمريكية، وتغير نظريتهم من الرأي السابق والسائد بأن فيروس كورونا انتقل طبيعيا من سوق ووهان للحيوانات البرية التي كانت مكدسة في أقفاص صغيرة وضيقة إلى الإنسان، ثم انتقلت العدوى إلى معظم سكان الأرض أينما يقطنون.
وبالرغم من هذه المستجدات إلا أن البيت الأبيض مازال محافظاً في تصريحاته، وغير واضحٍ وصريح في إعلاناته. فقد أعلن «جيك سوليفان» (Jake Sullivan) مستشار الأمن القومي في 27 فبراير مباشرة بعد تسريب الصحيفة للخبر الجديد في 26 فبراير بأن إدارة بايدن لم تتوصل إلى إجماع حول مصدر الفيروس المسبب لمرض كوفيد_19، وهناك العديد من الآراء المختلفة حول مصدر الفيروس، حيث قال: «حالياً، لا يوجد جواب نهائي صادر عن مجتمع الاستخبارات حول هذا السؤال»، فمجتمع الاستخبارات مازال منقسماً ومختلفاً حول نظرية مصدر الفيروس. وفي السياق نفسه، قال «جون كيربي» (John Kirby) المتحدث باسم «مجلس الأمن القومي» ( National Security Councl) في 27 فبراير: «ما يريده الرئيس هو الحقائق»، كما أضاف قائلاً إن: «مجتمع الاستخبارات وباقي وكالات الحكومة مازالوا يبحثون في هذه القضية، فلا يوجد استنتاج نهائي».
وفي المقابل كانت هناك ردة فعل قوية وحازمة من الجانب الصيني على هذه الاتهامات الأمريكية الجديدة الخاصة بتسرب الفيروس من مختبر في الصين، وبشكل عام فإن الصين دائماً تعارض فكرة تسرب الفيروس من مختبراتها ولا تعطي أي مجال للبحث فيها والتحقيق حولها، وتقول إن كل هذه الادعاءات لها دوافع سياسية. ففي 28 فبراير جاء الرد الصيني على لسان الناطق باسم وزارة الخارجية «ماو ننج»، حيث قال إن: «على أمريكا التوقف عن إثارة الجدل حول التسربات المخبرية، والتوقف عن تشويه سمعة الصين، والتوقف عن تسييس قضية مصدر الفيروس».
ومع هذه الاتهامات المتبادلة بين الصين وأمريكا خاصة حول النظريات المتعلقة بمصدر الفيروس ومكان بدء المرض وانتشاره، يقف الإنسان حائراً لا يعلم أين الحقيقة، ولا يعلم أين يكمن مصدر الحقيقة، وما الجهة الموضوعية والمستقلة التي يمكن الاعتماد عليها والرجوع إليها للحصول على المعلومات الموثوقة والصادقة غير الملوثة بسياسات الدول ودوافعهم المختلفة غير العلمية وغير الموضوعية.
فمن الجهات التي من المفروض «نظرياً» أن تكون غير متحيزة، ولها مصداقية وثقة عالية بعض الشيء هي منظمات الأمم المتحدة ذات العلاقة، وبخاصة منظمة الصحة العالمية. فهذه المنظمة قدَّمت استنتاجات التقرير الختامي لآخر فريق تحقيق دولي تابع لها في 30 مارس 2021، وهذه الاستنتاجات جاءت متوافقة مع الرأي السائد حول الفيروس، وهو رأي الصين والكثير من علماء العالم، ولكن في الوقت نفسه دون إغلاق الباب كلياً أمام نظرية احتمال تسرب الفيروس من المختبر في الصين، ودون إهمال هذه النظرية وتجاهلها تماماً، حيث قدَّم التقرير إشارة إليها، فجاء فيه بأن نظرية التسرب هي الأقل ترجيحاً، وأنها «جداً غير محتملة» (extremely unlikely). كما جاءت إشارة أقوى، وأكثر وضوحاً حول نظرية تسرب الفيروس من مختبر ووهان من المدير العام للمنظمة عندما قال إنه بالرغم من أن التسرب في المختبر هو السبب الأقل احتمالاً، إلا أن هناك حاجة إلى مزيد من البحث المكثف، ومن التحقيق الدقيق لاستبعاده، كما أضاف أنه: «فيما يتعلق بمنظمة الصحة العالمية فإن جميع الفرضيات مطروحة على الطاولة».
ولذلك مع هذه التعقيدات والصعوبات السياسية والعلمية، وعدم تعاون وسوء نية الدول المعنية مباشرة بالقضية، إضافة إلى دخول الدوافع الانتهازية والنظريات غير الموضوعية والمستقلة، فإن حل لغز مصدر الفيروس الذي أعاق حركة البشرية جمعاء سيكون صعباً جداً، وربما مستحيلاً.
bncftpw@batelco.com.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك